للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لِأَنَّ الْخَطْبَ هُوَ الشَّأْنُ الْمَكْرُوهُ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ [الذاريات: ٣١] ، فَالْمَعْنَى: مَا هِيَ مُصِيبَتُكَ الَّتِي أَصَبْتَ بِهَا الْقَوْمَ وَمَا غَرَضُكَ مِمَّا فَعَلْتَ.

وَقَوْلُهُ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ إِلَى قَوْلِهِ فَنَبَذْتُها إِنْ حُمِلَتْ كَلِمَاتُ (بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ. وقبضت قَبْضَةً، وَأثر، ونبذتها) عَلَى حَقَائِقِ مَدْلُولَاتِهَا كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ كَانَ الْمَعْنَى أَبْصَرْتُ مَا لَمْ يُبْصِرُوهُ، أَيْ نَظَرْتُ مَا لَمْ يَنْظُرُوهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ بَصُرْتُ، وأبصرت كِلَاهُمَا مِنْ أَفْعَالِ النَّظَرِ بِالْعَيْنِ، إِلَّا أَنَّ بَصُرَ بِالشَّيْءِ حَقِيقَتُهُ صَارَ بَصِيرًا بِهِ أَوْ بَصِيرًا بِسَبَبِهِ، أَيْ شَدِيدَ الْإِبْصَارِ، فَهُوَ أَقْوَى مِنْ أَبْصَرْتُ، لِأَنَّهُ صِيغَ مِنْ فِعْلٍ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- الَّذِي تُشْتَقُّ مِنْهُ الصِّفَاتُ الْمُشَبَّهَةُ الدَّالَّةُ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ سَجِيَّةً، قَالَ تَعَالَى:

فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [١١] .

وَلَمَّا كَانَ الْمَعْنَى هُنَا جَلِيًّا عَن أَمر مرثيّ تَعَيَّنَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَجَازِ بِاسْتِعَارَةِ بَصُرَ الدَّالِّ عَلَى قُوَّةِ الْإِبْصَارِ إِلَى مَعْنَى الْعِلْمِ الْقَوِيِّ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ عَنِ التَّقْيِيدِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق: ٢٢] ، وَكَمَا سُمِّيَتِ الْمَعْرِفَةُ الرَّاسِخَةُ بَصِيرَةً فِي قَوْله أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ [يُوسُف: ١٠٨] . وَحُكِيَ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» عَنِ اللِّحْيَانِيِّ: إِنَّهُ لَبَصِيرٌ بِالْأَشْيَاءِ، أَيْ عَالِمٌ بِهَا، وَبَصُرْتُ بِالشَّيْءِ: عَلِمْتُهُ. وَجُعِلَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ، وَكَذَلِكَ فَسَّرَهَا الْأَخْفَشُ فِي نَقْلِ «لِسَانِ الْعَرَبِ» وَأَثْبَتَهُ الزَّجَّاجُ.

فَالْمَعْنَى: عَلِمْتُ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ وَفَطِنْتُ لِمَا لَمْ يَفْطِنُوا لَهُ، كَمَا جَعَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» أَوَّلَ وَجْهَيْنِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ. وَلِذَلِكَ طَرِيقَتَانِ: إِمَّا جَعْلُ بَصُرْتُ مَجَازًا، وَإِمَّا جَعْلُهُ حَقِيقَةً.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَبْصُرُوا بِتَحْتِيَّةٍ عَلَى أَنَّهُ رَافِعٌ لِضَمِيرِ الْغَائِبِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِفَوْقِيَّةٍ- عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ.

وَالْقَبْضَةُ:- بِفَتْحِ الْقَافِ- الْوَاحِدَةُ: مِنَ الْقَبْضِ، وَهُوَ غَلْقُ الرَّاحَةِ عَلَى شَيْءٍ، فَالْقَبْضَةُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَضِدُّ الْقَبْضِ: الْبَسْطُ.