للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ [الْإِسْرَاء:

٦٣] ، وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ مِمَّا أَنْشَدَهَ سِيبَوَيْهِ فِي «كِتَابِهِ» وَلَمْ يَعْزُهُ:

فَالْيَوْمَ قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وَتَشْتِمُنَا ... فَاذْهَبْ فَمَا وَبِك لأيام مِنْ عَجَبِ

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ عَدَمُ الِاكْتِرَاثِ بِحَالِهِ كَقَوْلِ النَّبْهَانِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ «الْحَمَاسَةِ» :

فَإِنْ كُنْتَ سَيِّدَنَا سُدْتَنَا ... وَإِنْ كُنْتَ لِلْخَالِ فَاذْهَبْ فَخَلْ

أَمَّا قَوْلُهُ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ فَهُوَ إِخْبَارٌ بِمَا عَاقَبَهُ اللَّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَجَعَلَ حَظَّهُ فِي حَيَاتِهِ أَنْ يَقُولَ لَا مِسَاسَ، أَيْ سَلَبَهُ اللَّهُ الْأُنْسَ الَّذِي فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ فَعَوَّضَهُ بِهِ هَوَسًا وَوِسْوَاسًا وَتَوَحُّشًا، فَأَصْبَحَ مُتَبَاعِدًا عَنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ، عَائِشًا وَحْدَهُ لَا يَتْرُكُ أَحَدًا يَقْتَرِبُ مِنْهُ، فَإِذَا لَقِيَهُ إِنْسَانٌ قَالَ لَهُ: لَا مِسَاسَ، يَخْشَى أَنْ يَمَسَّهُ، أَيْ لَا تَمَسَّنِي وَلَا أَمَسُّكَ، أَوْ أَرَادَ لَا اقْتِرَابَ مِنِّي، فَإِنَّ الْمَسَّ يُطْلَقُ عَلَى الِاقْتِرَابِ كَقَوْلِهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ [هود: ٦٤] ، وَهَذَا أَنْسَبُ بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ، أَيْ مُقَارَبَةٌ بَيْنِنَا، فَكَانَ يَقُولُ ذَلِكَ، وَهَذِهِ حَالَةٌ فَظِيعَةٌ أَصْبَحَ بِهَا سُخْرِيَةً.

وَمِسَاسَ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- فِي قِرَاءَةِ جَمِيعِ الْقُرَّاءِ وَهُوَ مَصْدَرُ مَاسَّهُ بِمَعْنَى مَسَّهُ، وَ (لَا) نَافِيَةٌ لِلْجِنْسِ، ومِساسَ اسْمُهَا مَبْنَيٌّ عَلَى الْفَتْحِ.

وَقَوْلُهُ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً اللَّامُ فِي لَكَ اسْتِعَارَةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاء: ٧] أَيْ فَعَلَيْهَا. وَتَوَعَّدَهُ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ فَجَعَلَهُ مَوْعِدًا لَهُ، أَيْ مَوْعِدَ الْحَشْرِ وَالْعَذَابِ، فَالْمَوْعِدُ مَصْدَرٌ، أَيْ وَعْدٌ لَا يُخْلَفُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ [الرّوم: ٦] . وَهُنَا تَوَعُّدٌ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَنْ تُخْلَفَهُ- بِفَتْحِ اللَّامِ- مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ لِلْعِلْمِ بِفَاعِلِهِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، أَيْ لَا يُؤَخِّرُهُ اللَّهُ عَنْكَ، فَاسْتُعِيرَ الْإِخْلَافُ لِلتَّأْخِيرِ لِمُنَاسَبَةِ الْمَوْعِدِ.