كَمَا شُبِّهَ بِالزَّرْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ فِي سُورَةِ [الْفَتْح: ٢٩] . وَيُقَال للناشىء: أَنْبَتَهُ اللَّهُ نَبَاتًا حَسَنًا، قَالَ تَعَالَى: وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً فِي سُورَةِ [آلِ عِمْرَانَ: ٣٧] .
فَلِلْإِشَارَةِ إِلَى الشَّبَهَيْنِ شَبَهِ الْبَهْجَةِ وَشَبَهِ الْهَلْكِ أُوثِرَ تَشْبِيهُهُمْ حِينَ هَلَاكِهِمْ بِالْحَصِيدِ.
وَكَذَلِكَ شُبِّهُوا حِينَ هَلَاكِهِمْ بِالنَّارِ الْخَامِدَةِ فَتَضَمَّنَ تَشْبِيهَهَمْ قَبْلَ ذَلِكَ بِالنَّارِ الْمَشْبُوبَةِ فِي الْقُوَّةِ وَالْبَأْسِ كَمَا شُبِّهَ بِالنَّارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ فِي سُورَةِ [الْمَائِدَةِ: ٦٤] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فِي سُورَةِ [الْبَقَرَةِ:
١٧] . فَحَصَلَ تَشْبِيهَانِ بَلِيغَانِ وَلَيْسَا بِاسْتِعَارَتَيْنِ مَكْنِيَّتَيْنِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُشَبَّهِ فِيهِمَا مَانِعٌ مِنْ تَقَوُّمِ حَقِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ خلافًا للعلّامتين التفتازانيّ وَالْجُرْجَانِيِّ فِي «شَرْحَيْهِمَا لِلْمِفْتَاحِ» مُتَمَسِّكِينَ بِصِيغَةِ جَمْعِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى جَعَلْناهُمْ، فَجَعَلَا ذَلِكَ اسْتِعَارَتَيْنِ مَكْنِيَّتَيْنِ إِذْ شُبِّهُوا بِزَرْعٍ حِينَ انعدامه ونار ذهب قُوَّتُهَا وَحُذِفَ الْمُشَبَّهُ بِهِمَا وَرُمِزَ إِلَيْهِمَا بِلَازِمِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَهُوَ الْحَصْدُ وَالْخُمُودُ فَكَانَ حَصِيداً وَصْفًا فِي الْمَعْنَى لِلضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي جَعَلْناهُمْ، فَالْحَصِيدُ هُنَا وَصْفٌ لَيْسَ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ الْجَامِدِ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَحَبَّ الْحَصِيدِ [ق:
٩] ، وَبِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ تَعَالَى حَصِيداً مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ إِذْ لَمْ يُشَبَّهُوا بِحَصِيدِ زَرْعٍ بَلْ أُثْبِتَ لَهُمْ أَنَّهُمْ مَحْصُودُونَ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً مِثْلَ نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى خامِدِينَ الَّذِي هُوَ اسْتِعَارَةٌ لَا مَحَالَةَ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى مَجِيئِهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ، وَمَبْنَى الِاسْتِعَارَةِ عَلَى
تَنَاسِي التَّشْبِيهِ. وَهَذَا تَكَلُّفٌ مِنْهُمَا وَلَمْ أَدْرِ مَاذَا دَعَاهُمَا إِلَى ارْتِكَابِ هَذَا التَّكَلُّفِ.
وَانْتَصَبَ حَصِيداً خامِدِينَ عَلَى أَنَّ كِلَيْهِمَا مَفْعُولٌ ثَانٍ مُكَرَّرٌ لِفِعْلِ الْجَعْلِ كَمَا يُخْبَرُ عَنِ الْمُبْتَدَأِ بِخَبَرَيْنِ وَأَكْثَرَ، فَإِنَّ مَفْعُولَيْ (جَعَلَ) أَصْلُهُمَا الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ وَلَيْسَ ثَانِيهُمَا وَصْفًا لِأَوَّلِهِمَا كَمَا هُوَ ظَاهر.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute