ثُمَّ سَكَنَ هُوَ وَأَبُوهُ وَأَهْلُهُ (حَارَانَ) وَحَارَانُ هِيَ (حَرَّانُ) ، وَكَانَتْ بَعْدُ مِنْ بِلَادِ الْكَلْدَانِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْإِصْحَاحِ ١٢ مِنَ التَّكْوِينِ لِقَوْلِهِ فِيهِ: «اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ
عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ» . وَمَاتَ أَبُوهُ فِي (حَارَانَ) كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ ١١ مِنَ التَّكْوِينِ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ دَعْوَةَ إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ مِنْ (حَارَانَ) لِأَنَّهُ مِنْ حَارَانَ خَرَجَ إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ. وَقَدِ اشْتُهِرَ حَرَّانَ بِأَنَّهُ بَلَدُ الصَّابِئَةِ وَفِيهِ هَيْكَلٌ عَظِيمٌ لِلصَّابِئَةِ، وَكَانَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ صَابِئَةً يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيَجْعَلُونَ لَهَا صُوَرًا مُجَسَّمَةً.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا هذِهِ التَّماثِيلُ يَتَسَلَّطُ عَلَى الْوَصْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا عِبَادَتُكُمْ هَذِهِ التَّمَاثِيلَ؟. وَلَكِنَّهُ صِيغَ بِأُسْلُوبِ تَوَجُّهِ الِاسْتِفْهَامِ إِلَى ذَاتِ التَّمَاثِيلِ لِإِبْهَامِ السُّؤَالِ عَنْ كُنْهِ التماثيل فِي بادىء الْكَلَامِ إِيمَاءً إِلَى عَدَمِ الْمُلَاءَمَةِ بَيْنَ حَقِيقَتِهَا الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالتَّمَاثِيلِ وَبَيْنَ وَصْفِهَا بِالْمَعْبُودِيَّةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِعُكُوفِهِمْ عَلَيْهَا. وَهَذَا مِنْ تَجَاهُلِ الْعَارِفِ اسْتَعْمَلَهُ تَمْهِيدًا لِتَخْطِئَتِهِمْ بَعْدَ أَنْ يَسْمَعَ جَوَابَهُمْ فَهُمْ يَظُنُّونَهُ سَائِلًا مُسْتَعْلِمًا وَلِذَلِكَ أَجَابُوا سُؤَالَهُ بِقَوْلِهِمْ وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ فَإِنَّ شَأْنَ السُّؤَالِ بِكَلِمَةِ (مَا) أَنَّهُ لِطَلَبِ شرح مَاهِيَّة الْمَسْئُول عَنْهُ.
وَالْإِشَارَةُ إِلَى التَّمَاثِيلِ لِزِيَادَةِ كَشْفِ مَعْنَاهَا الدَّالِّ عَلَى انْحِطَاطِهَا عَنْ رُتْبَةِ الْأُلُوهِيَّةِ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنْهَا بِالتَّمَاثِيلِ يَسْلُبُ عَنْهَا الِاسْتِقْلَالَ الذَّاتِيَّ.
وَالْأَصْنَامُ الَّتِي كَانَ يَعْبُدُهَا الْكَلْدَانُ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ هِيَ (بَعْلُ) وَهُوَ أَعْظَمُهَا، وَكَانَ مَصُوغًا مِنْ ذَهَبٍ وَهُوَ رَمْزُ الشَّمْسِ فِي عَهْدِ سَمِيرَمِيسَ، وَعَبَدُوا رُمُوزًا لِلْكَوَاكِبِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ أَصْنَامَ قَوْمِ نُوحٍ: وَدًّا، وَسُوَاعًا، وَيَغُوثَ، وَيَعُوقُ، وَنَسْرًا، إِمَّا بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَإِمَّا بِأَسْمَاءٍ أُخْرَى. وَقَدْ دَلَّتِ الْآثَارُ عَلَى أَنَّ مِنْ أَصْنَامِ أَشُورَ (إِخْوَانِ الْكَلْدَانِ) صَنَمًا اسْمُهُ (نَسْرُوخُ) وَهُوَ نَسْرٌ لَا مَحَالَةَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute