مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا خَاصَّتُهُمْ ظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ خَلَصَ لِلنَّبِيءِ مِنْ بَعْضِ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ وَأَنَّ نِفَاقَهُمْ كَانَ قَدْ بَلَغَ بِهِمْ إِلَى أَنْ أَخْبَرُوا الْمُسْلِمِينَ بِبَعْضِ قَصَصِ قَوْمِهِمْ سَتْرًا لِكُفْرِهِمُ الْبَاطِنِ فَوَبَّخُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ تَوْبِيخَ إِنْكَارٍ أَيْ كَيْفَ يَبْلُغُ بِكُمُ النِّفَاقُ إِلَى هَذَا وَأَنَّ فِي بَعْضِ إِظْهَارِ الْمَوَدَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ كِفَايَةً عَلَى حَدِّ قَوْلِ الْمَثَلِ الَّذِي حَكَاهُ بَشَّارٌ بِقَوْلِهِ:
وَاسْعَدْ بِمَا قَالَ فِي الْحُلْمِ ابْنُ ذِي يَزَنْ ... يَلْهُو الْكِرَامُ وَلَا يَنْسَوْنَ أَحْسَابَا
فَحَكَى اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ حِكَايَةً لِحَيْرَتِهِمْ وَاضْطِرَابِ أَمْرِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُرْسِلُونَ نَفَرًا مِنْ قَوْمِهِمْ جَوَاسِيسَ عَلَى النَّبِيءِ وَالْمُسْلِمِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ الْيَهُودِيَّةَ ثُمَّ اتَّهَمُوهُمْ بِخَرْقِ الرَّأْيِ وَسُوءِ التَّدْبِير وَأَنَّهُمْ دهبوا يَتَجَسَّسُونَ فَكَشَفُوا أَحْوَالَ قَوْمِهِمْ، وَيَدُلُّ لِهَذَا عِنْدِي قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدُ: أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ وَأَخْبَارٌ مَرْوِيَّةٌ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ بِأَسَانِيدَ لِبَيَانِ الْمُتَحَدِّثِ بِهِ، فَعَنِ السُّدِّيِّ كَانَ بَعْضُ الْيَهُودِ يُحَدِّثُ الْمُسْلِمِينَ بِمَا عُذِّبَ بِهِ أَسْلَافُهُمْ، وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ: إِنَّ النَّبِيءَ مَذْكُورٌ فِي التَّوْرَاةِ، وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ كَانُوا يُخْبِرُونَ عَنْ بَعْضِ قَصَصِ التَّوْرَاةِ.
وَالْمُرَادُ بِما فَتَحَ اللَّهُ إِمَّا مَا قَضَى اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْمَصَائِبِ فَإِنَّ الْفَتْحَ بِمَعْنَى الْقَضَاءِ وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [الْأَعْرَاف: ٨٩] وَالْفَتَّاحُ الْقَاضِي بِلُغَةِ الْيَمَنِ، وَإِمَّا بِمَعْنَى الْبَيَانِ وَالتَّعْلِيمِ، وَمِنْهُ الْفَتْحُ عَلَى الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ بِإِظْهَارِ الْآيَةِ لَهُ وَهُوَ كِنَايَةٌ مَشْهُورَةٌ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَسْتَلْزِمُ بَيَانَ الْحَقِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [الْبَقَرَة: ٨٩] أَيْ يَسْأَلُونَهُمُ الْعِلْمَ بِالْأُمُورِ التَّشْرِيعِيَّةِ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ، فَالْمَعْنَى بِمَا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ مِنَ الدِّينِ.
وَقَوْلُهُ: لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ صِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهَا حُصُولُ الْفِعْلِ مِنْ جَانِبَيْنِ بَلْ هِيَ لِتَأْكِيدِ الِاحْتِجَاجِ أَيْ لِيَحْتَجُّوا عَلَيْكُمْ بِهِ أَيْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيُحَاجُّوكُمْ لَامُ التَّعْلِيلِ لَكِنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّعْقِيبِ مَجَازًا أَوْ تَرْشِيحًا لِاسْتِعْمَالِ الِاسْتِفْهَامِ فِي الْإِنْكَارِ أَوِ التَّقْرِيرِ مَجَازًا فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الِاسْتِفْهَامُ الْمَوْضُوعُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي الْإِنْكَارِ أَوِ التَّقْرِيرِ مَجَازًا لِأَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ يَسْتَلْزِمُ الْإِقْرَارَ وَالْمُقَرَّرَ عَلَيْهِ يَقْتَضِي الْإِنْكَارَ لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ مِمَّا يُنْكَرُ بَدَاهَةً وَكَانَتِ الْمُحَاجَّةُ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ فَرْعًا عَنِ التَّحْدِيثِ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ جَعَلَ فَرْعَ وُقُوعِ التَّحْدِيثِ الْمُنْكَرِ كَأَنَّهُ عِلّة مسؤول عَنْهَا أَيْ لَكَانَ فِعْلُكُمْ هَذَا مُعَلَّلًا بِأَنْ يُحَاجُّوكُمْ، وَهُوَ غَايَةٌ فِي الْإِنْكَارِ إِذْ كَيْفَ يَسْعَى أَحَدٌ فِي إِيجَادِ شَيْءٍ تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فَالْقَرِينَةُ هِيَُُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute