للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ كَذَبَ فِي جَوَابِهِ عَنْ قَوْلِ قَوْمِهِ: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنا حَيْثُ قَالَ:

بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، لِأَنَّ (بَلْ) إِذَا جَاءَ بَعْدَ اسْتِفْهَامٍ أَفَادَ إِبْطَالَ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ.

فَقَوْلُهُمْ: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا سُؤَالٌ عَنْ كَوْنِهِ مُحَطِّمَ الْأَصْنَامِ، فَلَمَّا قَالَ: بَلْ فَقَدْ نَفَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ نَفْيٌ مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ وَلِاعْتِقَادِهِ فَهُوَ كَذِبٌ. غَيْرَ أَنَّ الْكَذِبَ مَذْمُومٌ وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ وَيُرَخَّصُ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ مِثْلَ مَا قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ، فَهَذَا الْإِضْرَابُ كَانَ تَمْهِيدًا لِلْحُجَّةِ عَلَى نِيَّةِ أَنْ يَتَّضِحَ لَهُمُ الْحَقُّ بِآخِرَةٍ. وَلِذَلِكَ قَالَ: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ الْآيَةَ.

أَمَّا الْإِخْبَارُ بِقَوْلِهِ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَلَيْسَ كَذِبًا وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْوَاقِعِ وَلِاعْتِقَادِ الْمُتَكَلِّمِ لِأَنَّ الْكَلَامَ وَالْأَخْبَارَ إِنَّمَا تَسْتَقِرُّ بِأَوَاخِرِهَا وَمَا يَعْقُبُهَا، كَالْكَلَامِ الْمُعَقَّبِ بِشَرْطٍ أَوِ اسْتِثْنَاءٍ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَصَدَ تَنْبِيهَهُمْ عَلَى خَطَأِ عِبَادَتِهِمْ لِلْأَصْنَامِ مَهَّدَ لِذَلِكَ كَلَامًا هُوَ جَارٍ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَوْ كَانَ هَذَا إِلَهًا لَمَا رَضِيَ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى شُرَكَائِهِ، فَلَمَّا حَصَلَ الِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِمْ بِمَحْضَرِ كَبِيرِهِمْ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْفَاعِلَ لِذَلِكَ، ثُمَّ ارْتَقَى فِي الِاسْتِدْلَالِ بِأَنْ سَلَبَ الْإِلَهِيَّةَ عَنْ جَمِيعِهِمْ بِقَوْلِهِ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ كَمَا تَقَدَّمَ. فَالْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ

أَنَّهَا كذبات فِي بادىء الْأَمْرِ وَأَنَّهَا عِنْدَ التَّأَمُّلِ يَظْهَرُ الْمَقْصُودُ مِنْهَا. وَذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْكَذِبِ إِنَّمَا عِلَّتُهُ خَدْعُ الْمُخَاطَبِ وَمَا يَتَسَبَّبُ عَلَى الْخَبَرِ الْمَكْذُوبِ مِنْ جَرَيَانِ الْأَعْمَالِ عَلَى اعْتِبَارِ الْوَاقِعِ بِخِلَافِهِ. فَإِذَا كَانَ الْخَبَرُ يُعْقَبُ بِالصِّدْقِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنَ الْكَذِبِ بَلْ كَانَ تَعْرِيضًا أَوْ مَزْحًا أَوْ نَحْوَهُمَا.

وَأَمَّا مَا

وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ «فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ كَذِبَاتٍ كَذَبَهَا»

فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَذْكُرُ أَنَّهُ قَالَ كَلَامًا خِلَافًا لِلْوَاقِعِ بِدُونِ إِذن من اللَّهِ بِوَحْيٍ، وَلَكِنَّهُ ارْتَكَبَ قَوْلَ خِلَافِ الْوَاقِعِ لِضَرُورَةِ الِاسْتِدْلَالِ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ فَخَشِيَ أَنْ لَا يُصَادِفَ اجْتِهَادُهُ الصَّوَابَ مِنْ مُرَادِ اللَّهِ فَخَشِيَ عِتَابَ اللَّهِ فَتَخَلَّصَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْقِفِ.