وَاعْلَمْ أَنَّ مُقْتَضى عطف دَاوُود وَسُلَيْمَانَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَمُقْتَضَى قَوْلِهِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ أَيْ عَالِمِينَ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَمُقْتَضَى وُقُوعِ الْحُكْمَيْنِ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَفِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، إِذْ إِنَّ الْحُكْمَيْنِ لَمْ يَكُونَا عَنْ وَحْيٍ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّهُمَا إِنَّمَا كَانَا عَنْ علم أوتيه دَاوُود وَسُلَيْمَانُ، فَذَلِكَ مِنَ الْقَضَاءِ بِالِاجْتِهَادِ. وَهُوَ جَارٍ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ مِنْ جَوَازِ الِاجْتِهَاد للأنبياء ولنبينا عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَوُقُوعِهِ فِي مُخْتَلِفِ الْمَسَائِلِ.
وَقَدْ كَانَ قَضَاء دَاوُود حَقًّا لِأَنَّهُ مُسْتَنِدٌ إِلَى غُرْمِ الْأَضْرَارِ عَلَى الْمُتَسَبِّبِينَ فِي إِهْمَالِ الْغَنَمِ، وَأَصْلُ الْغُرْمِ أَنْ يَكُونَ تَعْوِيضًا نَاجِزًا فَكَانَ ذَلِكَ الْقَضَاءُ حَقًّا. وَحَسْبُكَ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي إِفْسَادِ الْمَوَاشِي.
وَكَانَ حُكْمُ سُلَيْمَانَ حَقًّا لِأَنَّهُ مُسْتَنِدٌ إِلَى إِعْطَاءِ الْحَقِّ لِذَوِيهِ مَعَ إِرْفَاقِ الْمَحْقُوقِينَ بِاسْتِيفَاءِ مَالِهِمْ إِلَى حِينٍ فَهُوَ يُشْبِهُ الصُّلْحَ. وَلَعَلَّ أَصْحَابَ الْغَنَمِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سِوَاهَا كَمَا هُوَ الْغَالِبُ، وَقَدْ رَضِيَ الْخَصْمَانِ بِحُكْمِ سُلَيْمَانَ لِأَنَّ الْخَصْمَيْنِ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْإِنْصَافِ لَا مِنْ أَهْلِ الِاعْتِسَافِ، وَلَوْ لَمْ يَرْضَيَا لَكَانَ الْمَصِيرُ إِلَى حكم دَاوُود إِذْ لَيْسَ الْإِرْفَاقُ بِوَاجِبٍ.
وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَضَاءُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ بِأَنْ يَمُرَّ الْمَاءُ مِنَ (الْعُرَيْضِ) عَلَى أَرْضِهِ إِلَى أَرْضِ الضَّحَّاكِ بْنِ خَلِيفَةَ وَقَالَ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ: لِمَ تَمْنَعُ أَخَاكَ مَا يَنْفَعُهُ وَهُوَ لَكَ نَافِعٌ؟ فَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا وَاللَّهِ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لَيَمُرَّنَّ بِهِ وَلَوْ عَلَى بَطْنِكَ، فَفَعَلَ الضَّحَّاكُ.
وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ عَلِمَ أَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَأَنَّهُمَا يَرْضَيَانِ لِمَا عَزَمَ عَلَيْهِمَا، فَكَانَ قَضَاءُ سُلَيْمَانَ أَرْجَحَ.
وَتُشْبِهُ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الزُّبَيْرِ وَالْأَنْصَارِيِّ فِي السَّقْيِ مِنْ مَاءِ شِرَاجِ الْحَرَّةِ إِذْ قَضَى أَوَّلَ مَرَّةٍ بِأَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute