للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمرَان: ٧٥] وَقَالَ ابْن صيّاد للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ» وَذَلِكَ لما تَقْتَضِيه الْأُمِّيين مِنْ قِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَتِ الأمية معْجزَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ كَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ مَعَ كَوْنِهِ نَشَأَ أُمِّيًّا قَبْلَ النُّبُوءَةِ وَقَدْ قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: إِنَّ اللَّهَ عَلَّمَ نَبِيَّهُ الْقِرَاءَةَ وَالْكِتَابَةَ بَعْدَ تَحَقُّقِ مُعْجِزَةِ الْأُمِّيَّةِ بِأَنْ يُطْلِعَهُ عَلَى مَا يَعْرِفُ بِهِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ اسْتِنَادًا لِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَيَّدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَكْثَرُهُمْ مِمَّا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي تَرْجَمته فِي كِتَابِ «الْمَدَارِكِ» لِعِيَاضٍ وَمَا أَرَادَ إِلَّا إِظْهَارَ رَأْيِهِ.

وَالْكِتَابُ إِمَّا بِمَعْنَى التَّوْرَاةِ اسْمٌ لِلْمَكْتُوبِ وَإِمَّا مَصْدَرُ كَتَبَ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَةَ وَيُبْعِدُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: إِلَّا أَمانِيَّ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ قَوْلُهُ: لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ أَثَرًا مِنْ آثَارِ الْأُمِّيَّةِ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ التَّوْرَاةَ إِلَّا عِلْمًا مُخْتَلِطًا حَاصِلًا مِمَّا يَسْمَعُونَهُ وَلَا يُتْقِنُونَهُ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي تَكُونُ الْجُمْلَةُ وَصْفًا كَاشِفًا لِمَعْنَى الْأُمِّيِّينَ كَقَوْلِ أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ:

الْأَلْمَعِيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكَ الظَّ ... نَّ كَأَنْ قَدْ رَأَى وَقَدْ سَمِعَا

وَالْأَمَانِيُّ بِالتَّشْدِيدِ جَمْعُ أُمْنِيَةٍ عَلَى وَزْنِ أَفَاعِيلَ وَقَدْ جَاءَ بِالتَّخْفِيفِ فَهُوَ جَمْعٌ عَلَى وَزْنِ أَفَاعِلَ عِنْدَ الْأَخْفَشِ كَمَا جُمِعَ مِفْتَاحٌ عَلَى مَفَاتِحَ وَمَفَاتِيحَ، وَالْأُمْنِيَةُ كَأُثْفِيَةٍ وَأُضْحِيَةٍ أُفْعُولَةٌ كَالْأُعْجُوبَةِ وَالْأُضْحُوكَةِ وَالْأُكْذُوبَةِ وَالْأُغْلُوطَةِ، وَالْأَمَانِيُّ كَالْأَعَاجِيبِ وَالْأَضَاحِيكِ وَالْأَكَاذِيبِ وَالْأَغَالِيطِ، مُشْتَقَّةٌ مِنْ مَنَى كَرَمَى بِمَعْنَى قَدَّرَ الْأَمْرَ وَلِذَلِكَ قِيلَ تَمَنَّى بِمَعْنَى تَكَلَّفِ تَقْدِيرَ حُصُولِ شَيْءٍ مُتَعَذِّرٍ أَوْ مُتَعَسِّرٍ، وَمَنَّاهُ أَيْ جَعَلَهُ مَانِيًا أَيْ مُقَدَّرًا كِنَايَةً عَنِ الْوَعْدِ الْكَاذِبِ لِأَنَّهُ يَنْقُلُ الْمَوْعُودَ مِنْ تَقْدِيرِ حُصُولِ الشَّيْءِ الْيَوْمَ إِلَى تَقْدِيرِ حُصُولِهِ غَدًا، وَهَكَذَا كَمَا قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:

فَلَا يَغُرَّنَّكَ مَا مَنَّتْ وَمَا وَعَدَتْ ... إِنَّ الْأَمَانِيَّ وَالْأَحْلَامَ تَضْلِيلُ

وَلِأَنَّ الْكَاذِبَ مَا كَذَبَ إِلَّا لِأَنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُوَافِقًا لِخَبَرِهِ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَدَثَتِ الْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْكَذِبِ وَالتَّمَنِّي فَاسْتُعْمِلَتِ الْأُمْنِيَةُ فِي الْأُكْذُوبَةِ، فَالْأَمَانِيُّ هِيَ التَّقَادِيرُ النَّفْسِيَّةُ أَيِ الِاعْتِقَادَاتُ الَّتِي يَحْسَبُهَا صَاحِبُهَا حَقًّا وَلَيْسَتْ بِحَقٍّ أَوْ هِيَ الْفِعَالُ الَّتِي يَحْسَبُهَا الْعَامَّةُ مِنَ الدِّينِ وَلَيْسَتْ مِنْهُ بَلْ يَنْسَوْنَ الدِّينَ وَيَحْفَظُونَهَا، وَهَذَا دَأْبُ الْأُمَمِ الضَّالَّةِ عَنْ شَرْعِهَا أَنْ تَعْتَقِدَ مَالَهَا مِنَ الْعَوَائِدِ وَالرُّسُومِ وَالْمَوَاسِمِ شَرْعًا، أَوْ هِيَ التَّقَادِيرُ الَّتِي

وَضَعَهَا الْأَحْبَارُُُ