للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

: «إِنَّهَا لَبِلَادُهُمْ قَاتَلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَسْلَمُوا عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ» . وَلَا يَزُولُ ذَلِكَ الْحَقُّ إِلَّا بِمُوجِبٍ قَرَّرَهُ الشَّرْعُ أَوِ الْعَوَائِدُ قَبْلَ الشَّرْعِ. كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ:

فَإِنَّ الْحَقَّ مَقْطَعُهُ ثَلَاثٌ ... يَمِينٌ أَوْ نِفَارٌ أَوْ جَلَاءُ

فَمِنْ ذَلِكَ فِي الشَّرَائِعِ التَّغْرِيبُ وَالنَّفْيُ، وَمِنْ ذَلِكَ فِي قَوَانِينِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الْجَلَاءُ وَالْخَلْعُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِاعْتِدَاءٍ يَعْتَدِيهِ الْمَرْءُ عَلَى قَوْمِهِ لَا يَجِدُونَ لَهُ مَسْلَكًا مِنَ الرَّدْعِ غَيْرَ ذَلِكَ.

وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ فَإِنَّ إِيمَانَهُمْ بِاللَّهِ لَا يَنْجَرُّ مِنْهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى غَيْرِهِمْ إِذْ هُوَ شَيْءٌ قَاصِرٌ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَالْإِعْلَانُ بِهِ بِالْقَوْلِ لَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِمْ.

فَالِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِمْ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ ظُلْمٌ بَوَاحٌ وَاسْتِخْدَامٌ لِلْقُوَّةِ فِي تَنْفِيذِ الظُّلْمِ.

وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْحَقِّ، وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَقِّ حَقًّا يُوجِبُ الْإِخْرَاجَ، أَيِ الْحَقِّ عَلَيْهِمْ، كَانَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُسْتَعْمَلًا عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ التَّهَكُّمِيَّةِ، أَيْ إِنْ كَانَ عَلَيْهِمْ حَقٌّ فَهُوَ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ، فَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ تَأْكِيدُ عَدَمِ الْحَقِّ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ اسْتِقْرَاءِ مَا قَدْ يُتَخَيَّلُ أَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُوهِمُ نَقْضَهُ. وَيُسَمَّى عِنْدَ أَهْلِ الْبَدِيعِ تَأْكِيدُ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ، وَشَاهِدُهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:

وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ

وَهَذِهِ الْآيَةُ لَا مَحَالَةَ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ.