وَالتَّخَلُّقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى [طه: ٥٣] وَقَوْلِهِ: يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ [الزمر: ٢١] ، وَذَلِكَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْخُرُوجِ هُوَ الْبُرُوزُ مِنَ الْمَكَانِ وَلَمَّا كَانَ كُلُّ مَخْلُوقٍ يَبْرُزُ بَعْدَ الْعَدَمِ وَكَانَ الْمَكَانُ لَازِمًا لِكُلِّ حَادِثٍ شَبَّهَ ظُهُورَ الشَّيْءِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَعْدُومًا بِخُرُوجِ الشَّيْءِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ مَحْجُوبًا فِيهِ. وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ شَائِعَةٌ فِي الْقُرْآنِ.
فَيَظْهَرُ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ أَوَّلَ شَجَرِ الزَّيْتُونِ فِي طُورِ سَيْنَاءَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَجْنَاسَ وَالْأَنْوَاعَ الْمَوْجُودَةَ عَلَى الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَوَاطِنَ كَانَ فِيهَا ابْتِدَاءُ وَجُودِهَا قَبْلَ وُجُودِهَا فِي غَيْرِهَا لِأَنَّ بَعْضَ الْأَمْكِنَةِ تَكُونُ أَسْعَدَ لِنَشْأَةِ بَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ بَعْضٍ آخَرَ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَ طَبِيعَةِ الْمَكَانِ وَطَبِيعَةِ الشَّيْءِ الْمَوْجُودِ فِيهِ مِنْ حَرَارَةٍ أَوْ بُرُودَةٍ أَوِ اعْتِدَالٍ،
وَكَذَلِكَ فُصُولُ السَّنَةِ كَالرَّبِيعِ لِبَعْضِ الْحَيَوَانِ وَالشِّتَاءِ لِبَعْضٍ آخَرَ وَالصَّيْفِ لِبَعْضٍ غَيْرِهَا فَاللَّهُ تَعَالَى يُوجِدُ الْمَوْجُودَاتِ فِي الْأَحْوَالِ الْمُنَاسِبَةِ لَهَا فَالْحَيَوَانُ وَالنَّبَاتُ كُلُّهُ جَارٍ عَلَى هَذَا الْقَانُونِ.
ثُمَّ إِنَّ الْبَشَرَ إِذَا نَقَلُوا حَيَوَانًا أَوْ نَبَاتًا مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ أَوْ أَرَادُوا الِانْتِفَاعَ بِهِ فِي فَصْلٍ غَيْرِ فَصْلِهِ وَرَأَوْا عَدَمَ صَلَاحِيَةِ الْمَكَانِ أَوِ الزَّمَانِ الْمَنْقُولِ إِلَيْهِمَا يَحْتَالُونَ لَهُ بِمَا يُكْمِلُ نَقْصَهُ مِنْ تَدْفِئَةٍ فِي شِدَّةِ بَرْدٍ أَوْ تَبْرِيدٍ بِسَبْحٍ فِي الْمَاءِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ حَتَّى لَا يَتَعَطَّلَ تَنَاسُلُ ذَلِكَ الْمَنْقُولِ إِلَى غَيْرِ مَكَانِهِ، فَكَمَا أَنَّ بَعْضَ الْحَيَوَانِ أَوِ النَّبَاتِ لَا يَعِيشُ طَوِيلًا فِي بَعْضِ الْمَنَاطِقِ غَيْرِ الْمُلَايِمَةِ لِطِبَاعِهِ كَالْغَزَالِ فِي بِلَادِ الثُّلُوجِ فَكَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْأَمَاكِنِ مِنَ الْمِنْطَقَةِ الْمُلَائِمَةِ لِلْحَيَوَانِ أَوِ النَّبَاتِ أَصْلَحَ بِهِ مِنْ بَعْضِ جِهَاتِ تِلْكَ الْمِنْطَقَةِ، فَلَعَلَّ جَوَّ طُورِ سَيْنَاءَ لِتَوَسُّطِهِ بَيْنَ الْمَنَاطِقِ الْمُتَطَرِّفَةِ حَرًّا وَبَرْدًا وَلِتَوَسُّطِ ارْتِفَاعِهِ بَيْنَ النُّجُودِ وَالسُّهُولِ يَكُونُ أَسْعَدَ بِطَبْعِ فَصِيلَةِ الزَّيْتُونِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النُّور: ٣٥] ، فَاللَّهُ تَعَالَى هَيَّأَ لِتَكْوِينِهَا حِينَ أَرَادَ تَكْوِينَهَا ذَلِكَ الْمَكَانَ كَمَا هَيَّأَ لِتَكْوِينِ آدَمَ طِينَةً خَاصَّةً فَقَالَ: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ [الرَّحْمَن: ١٤] ثُمَّ يَكُونُ الزَّيْتُونُ قَدْ نُقِلَ مِنْ أَوَّلِ مَكَانٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute