(٥١)
يَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ اكْتِفَاءً بِالْمَقُولِ، وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، أَيْ قُلْنَا: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا. وَالْمَحْكِيُّ هُنَا حُكِيَ بِالْمَعْنَى لِأَنَّ الْخِطَابَ الْمَذْكُورَ هُنَا لَمْ يَكُنْ مُوَجَّهًا لِلرُّسُلِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بِضَرُورَةِ اخْتِلَافِ عُصُورِهِمْ. فَالتَّقْدِيرُ: قُلْنَا لِكُلِّ رَسُولٍ مِمَّنْ مَضَى ذِكْرُهُمْ
كُلْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلْ صَالِحًا إِنِّي بِمَا تعْمل عَلَيْهِم.
وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّوْزِيعِ لِمَدْلُولِ الْكَلَامِ وَهِيَ شَائِعَةٌ فِي خِطَابِ الْجَمَاعَاتِ. وَمِنْهُ:
رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ.
وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا بَيَانُ كَرَامَةِ الرُّسُلِ عِنْدَ اللَّهِ وَنَزَاهَتِهِمْ فِي أُمُورِهِمُ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالرُّوحَانِيَّةِ، فَالْأَكْلُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ نَزَاهَةٌ جِسْمِيَّةٌ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ نَزَاهَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ.
وَالْمُنَاسَبَةُ لِهَذَا الِاسْتِئْنَافِ هِيَ قَوْلُهُ: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٠] وَلِيَحْصُلَ مِنْ ذَلِكَ الرَّدُّ عَلَى اعْتِقَادِ الْأَقْوَامِ الْمُعَلِّلِينَ تَكْذِيبَهُمْ رُسُلَهُمْ بِعِلَّةِ أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٣٣] ، وَقَالَ: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الْفرْقَان: ٧] ، وَلِيُبْطِلَ بِذَلِكَ مَا ابْتَدَعَهُ النَّصَارَى مِنَ الرَّهْبَانِيَّةِ. وَهَذِهِ فَوَائِدُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ وَالتَّعْلِيمِ كَانَ لَهَا فِي هَذَا الْمَكَانِ الْوَقْعُ الْعَظِيمُ.
وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: كُلُوا لِلْإِبَاحَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْلُ أَمْرًا جِبِلِّيًّا لِلْبَشَرِ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا لَازِمُهُ وَهُوَ إِعْلَامُ الْمُكَذِّبِينَ بِأَنَّ الْأَكْلَ لَا يُنَافِي الرِّسَالَةَ وَأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَ الرُّسُلَ أَبَاحَ لَهُمُ الْأَكْلَ.
وَتَعْلِيقُ مِنَ الطَّيِّباتِ بِكَسْبِ الْإِبَاحَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنَ الْأَمْرِ شَرْطٌ أَنْ يَكُونَ الْمُبَاحُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، أَيْ أَنْ يَكُونَ الْمَأْكُولُ طَيِّبًا. وَيَزِيدُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ بِأَنَّ الرُّسُلَ إِنَّمَا يَجْتَنِبُونَ الْخَبَائِثَ وَلَا يَجْتَنِبُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ. وَالطَّيِّبَاتُ: مَا لَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا مَكْرُوهٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute