يُزِيلُ عَنْهُمْ تَرَفَهُمْ فَقَدْ كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي تَرَفٍ وَدَعَةٍ إِذْ كَانُوا سَالِمِينَ مِنْ غَارَاتِ الْأَقْوَامِ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَرَمِ الْآمِنِ وَكَانُوا تُجْبَى إِلَيْهِمْ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ وَكَانُوا مُكَرَّمِينَ لَدَى جَمِيعِ الْقَبَائِلِ، قَالَ الْأَخْطَلُ:
فَأَمَّا النَّاسُ مَا حَاشَا قُرَيْشًا ... فَإِنَّا نَحْنُ أَفْضَلُهُمْ فِعَالَا
وَكَانَتْ أَرْزَاقُهُمْ تَأْتِيهِمْ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ قَالَ تَعَالَى: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ
مِنْ خَوْفٍ
[قُرَيْش: ٤] ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: حَتَّى إِذَا أَخَذْنَاهُمْ وَهُمْ فِي تَرَفِهِمْ، كَقَوْلِهِ: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: ١١] .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حُلُولَ الْعَذَابِ بِالْمُتْرَفِينَ خَاصَّةً، أَيْ بِسَادَتِهِمْ وَصَنَادِيدِهِمْ وَهُوَ عَذَابُ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ فَإِنَّهُ قُتِلَ يَوْمَئِذٍ كُبَرَاءُ قُرَيْشٍ وَهُمْ أَصْحَابُ الْقَلِيبِ. قَالَ شَدَّادُ ابْن الْأَسْوَدِ:
وَمَاذَا بِالْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ ... مِنَ الشِّيزَى تُزَيَّنُ بِالسَّنَامِ
وَمَاذَا بِالْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ ... مِنَ الْقَيْنَاتِ وَالشَّرْبِ الْكِرَامِ
يَعْنِي مَا ضُمِّنَهُ الْقَلِيبُ مِنْ رِجَالٍ كَانَتْ سَجَايَاهُمُ الْإِطْعَامَ وَالطَّرَبَ وَاللَّذَّاتِ.
وَضَمِيرُ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ الْمُتْرَفِينَ لِأَنَّ الْمُتْرَفِينَ قَدْ هَلَكُوا فَالْبَقِيَّةُ يَجْأَرُونَ مِنَ التَّلَهُّفِ عَلَى مَا أَصَابَ قَوْمَهُمْ وَالْإِشْفَاقِ أَنْ يَسْتَمِرَّ الْقَتْلُ فِي سَائِرِهِمْ فَهُمْ يَجْأَرُونَ كُلَّمَا صُرِعَ وَاحِدٌ مِنْ سَادَتِهِمْ وَلِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ عَجِبُوا مِنْ تِلْكَ الْمُصِيبَةِ وَرَثُوا أَمْوَاتَهُمْ بِالْمَرَاثِي وَالنِّيَاحَاتِ.
ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ عَذَابٌ يَحِلُّ بِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي هِيَ مَكِّيَّةٌ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ هَذَا عَذَابٌ مَسْبُوقٌ بِعَذَابٍ حَلَّ بِهِمْ قَبْلَهُ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْله تَعَالَى بعد وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٧٦] الْآيَةَ.
وَلِذَا فَالْعَذَابُ الْمَذْكُورُ هُنَا عَذَابٌ هُدِّدُوا بِهِ، وَهُوَ إِمَّا عَذَابُ الْجُوعِ الثَّانِي الَّذِي أَصَابَ أَهْلَ مَكَّةَ بدعوة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هِجْرَتِهِ. ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ الْحَنَفِيُّ عَقِبَ سَرِيَّةِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي كَلْبٍِِ