(٩٥)
آذَنَتِ الْأَيَاتُ السَّابِقَةُ بِأَقْصَى ضَلَالِ الْمُشْرِكِينَ وَانْتِفَاءِ عُذْرِهِمْ فِيمَا دَانُوا بِهِ اللَّهَ تَعَالَى وَبِغَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَعَ الْأُمَمِ الَّتِي عَجَّلَ اللَّهُ لَهَا الْعَذَابَ فِي
الدُّنْيَا وَادَّخَرَ لَهَا عَذَابًا آخَرَ فِي الْآخِرَةِ، فَكَانَ ذَلِك نذراة لَهُمْ بِمِثْلِهِ وَتَهْدِيدًا بِمَا سَيَقُولُونَهُ وَكَانَ مَثَارًا لخشية النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحِلَّ الْعَذَابُ بِقَوْمِهِ فِي حَيَاتِهِ وَالْخَوْف من هؤله فلقن الله نبيئه أَنْ يَسْأَلَ النَّجَاةَ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ. وَفِي هَذَا التَّلْقِينِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ اللَّهَ مُنَجِّيهِمْ مِنَ الْعَذَابِ بِحِكْمَتِهِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الله يري نبيئه حُلُولَ الْعَذَابِ بِمُكَذِّبِيهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ تَلْقِينِ الدُّعَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [الْبَقَرَة: ٢٨٦] الْآيَةَ.
فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابًا عَمَّا يَخْتَلِجُ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فِيمَا حَلَّ بِالْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ. فَالْوَعِيدُ الْمَذْكُورُ هُنَا وَعِيدٌ بِعِقَابٍ فِي الدُّنْيَا كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
وَذُكِرَ فِي هَذَا الدُّعَاءِ لَفْظُ (رَبِّ) مُكَرَّرًا تَمْهِيدًا لِلْإِجَابَةِ لِأَنَّ وَصْفَ الرُّبُوبِيَّةِ يَقْتَضِي الرَّأْفَةَ بِالْمَرْبُوبِ.
وَأُدْخِلَ بَعْدَ حَرْفِ الشَّرْطِ (مَا) الزَّائِدَةُ لِلتَّوْكِيدِ فَاقْتَرَنَ فِعْلُ الشَّرْطِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ رَبْطِ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ.
وَنَظِيرُهُ فِي تَكْرِيرِ الْمُؤَكَّدَاتِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ قَوْلُ الْأَعْشَى:
إِمَّا تَرَيْنَا حُفَاةً لَا نِعَالَ لَنَا ... إِنَّا كَذَلِكَ مَا نَحْفَى وَنَنْتَعِلُ
أَيْ فَاعْلَمِي حَقًّا أَنَّا نَحْفَى تَارَةً وَنَنْتَعِلُ أُخْرَى لِأَجْلِ ذَلِكَ، أَيْ لِأَجْلِ إِخْفَاءِ الخطى لَا للأجل وِجْدَانِ نَعْلٍ مَرَّةً وَفُقْدَانِهَا أُخْرَى كَحَالِ أَهْلِ الْخَصَاصَةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ [٢٠٠] .
وَالْمَعْنَى: إِذَا كَانَ مَا يُوعَدُونَ حَاصِلًا فِي حَيَاتِي فَأَنَا أَدْعُوكُمْ أَنْ لَا تَجْعَلُونِي فِيهِمْ حِينَئِذٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute