للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقَوْلُهُمْ: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا أَرَادُوا بِهِ الِاعْتِذَارَ وَتَعِلَّةَ أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلِمُوا أَنَّهُمْ إِنِ امْتَنَعُوا امْتِنَاعًا مُجَرَّدًا عُدَّتْ عَلَيْهِمْ شَنَاعَةُ الِامْتِنَاعِ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَا يُدَّعَى أَنَّهُ أَنْزَلَهُ اللَّهُ فَقَالُوا فِي مَعْذِرَتِهِمْ وَلِإِرْضَاءِ أَنْفُسِهِمْ نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا أَيْ أَنَّ فَضِيلَةَ الِانْتِسَابِ لِلْإِيمَانِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَدْ حَصَلَتْ لَهُمْ أَيْ فَنَحْنُ نَكْتَفِي بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَزَادُوا إِذْ تَمَسَّكُوا بِذَلِكَ وَلَمْ يَرْفُضُوهُ. وَهَذَا وَجْهُ التَّعْبِيرِ فِي الْحِكَايَةِ عَنْهُمْ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ نُؤْمِنُ أَيْ نَدُومُ عَلَى الْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَقَدْ عَرَّضُوا بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِغَيْرِهِ لِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِنُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مُرَادَ الْقَائِلِ الْإِيمَانُ بِالْقُرْآنِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ فَقَطْ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ الْإِيمَانَ بِغَيْرِهِ مُقْتَضِيًا الْكفْر بِهِ فههنا مُسْتَفَادٌ مِنْ مَجْمُوعِ جُمْلَتَيْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَجَوَابِهَا بِقَوْلِهِمْ نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ جِيءَ بِالْمُضَارِعِ مُحَاكَاةً لِقَوْلِهِمْ نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وتصريح بِمَا لوحوا إِلَيْهِ ورد عَلَيْهِمْ أَيْ يَدُومُونَ عَلَى الْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ وَيَكْفُرُونَ كَذَلِكَ بِمَا وَرَاءَهُ فَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِهِ مُقْتَضٍ لِلْكُفْرِ بِغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ لِلْمُضَارِعِ تَأْثِيرًا فِي مَعْنَى التَّعَجُّبِ وَالْغَرَابَةِ. وَفِي قَرْنِهِ بِوَاوِ الْحَالِ إِشْعَارٌ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَزَادَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ.

وَالْوَرَاءُ فِي الْأَصْلِ اسْمُ مَكَانٍ لِلْجِهَةِ الَّتِي خَلْفَ الشَّيْءِ وَهُوَ عَرِيقٌ فِي الظَّرْفِيَّةِ وَلَيْسَ أَصْلُهُ مَصْدَرًا. جُعِلَ الْوَرَاءُ مَجَازًا أَوْ كِنَايَةً عَنِ الْغَائِبِ لِأَنَّهُ لَا يُبْصِرُهُ الشَّخْصُ وَاسْتُعْمِلَ أَيْضًا مَجَازًا عَنِ الْمُجَاوِزِ لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ أَمَامَ السَّائِرِ فَهُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ فَإِذا صَارُوا وَرَاءَهُ فَقَدْ تَجَاوَزَهُ وَتَبَاعَدَ عَنْهُ قَالَ النَّابِغَةُ:

وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَطْلَبُ وَاسْتُعْمِلَ أَيْضًا بِمَعْنَى الطَّلَبِ وَالتَّعَقُّبِ تَقُولُ وَرَائِي فُلَانٌ بِمَعْنَى يَتَعَقَّبُنِي وَيَطْلُبُنِي وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الْكَهْف: ٧٩] وَقَوْلُ لَبِيدٍ:

أَلَيْسَ وَرَائِي أَنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي ... لُزُومَ الْعَصَا تُحْنَى عَلَيْهَا الْأَصَابِعُ

فَمِنْ ثَمَّ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْوَرَاءَ يُطْلَقُ عَلَى الْخَلْفِ وَالْأَمَامِ إِطْلَاقَ اسْمِ الضِّدَّيْنِ وَاحْتَجَّ بِبَيْتِ لَبِيدٍ وَبِقُرْآنِ وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ الْآمِدِيُّ فِي «الْمُوَازَنَةِ» كَوْنَهُ ضِدًّا.

فَالْمُرَادُ بِمَا وَرَاءَهُ فِي الْآيَةِ بِمَا عَدَاهُ وَتَجَاوَزَهُ أَيْ بِغَيْرِهِ وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا الْغَيْرِ هُنَا خُصُوصُُُ