للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَابْتُدِئَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِذِكْرِ الزَّانِي قَبْلَ ذِكْرِ الزَّانِيَةِ عَلَى عَكْسِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [النُّور: ٢] فَإِنَّ وَجْهُ تَقْدِيمِ الزَّانِيَةِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ هُوَ مَا عَرَفْتَهُ، فَأَمَّا هُنَا فَإِنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ رَغْبَةَ رَجُلٍ فِي تَزَوُّجِ امْرَأَةٍ تَعَوَّدَتِ الزِّنَى فَكَانَ الْمَقَامُ مُقْتَضِيًا الِاهْتِمَامَ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ مِنْ مَذَمَّةِ الرَّجُلِ الَّذِي يَتَزَوَّجُ مِثْلَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ.

وَجُمْلَةُ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ تَكْمِيلٌ لِلْمَقْصُودِ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ قَبْلَهَا، وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَا أُرِيدَ مِنْ تَفْظِيعِ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ وَبِبَيَانِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِي الْقَضِيَّةِ.

وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَتَانِ مِنْ قَبْلُ وَهُوَ نِكَاحُ الزَّانِيَةِ، أَيْ وَحُرِّمَ نِكَاحُ الزَّانِيَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَلِذَلِكَ عُطِفَتْ جُمْلَةُ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهَا أَفَادَتْ تَكْمِيلًا لِمَا قَبْلَهَا وَشَأْنُ التَّكْمِيلِ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الْعَطْفِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنَ التَّحْرِيمِ وَقَالُوا: هَذَا حُكْمٌ مَنْسُوخٌ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ بَعْدَهَا وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النُّور: ٣٢] فَدَخَلَتِ الزَّانِيَةُ فِي الْأَيَامَى، أَيْ بَعْدَ أَنِ اسْتَقَرَّ الْإِسْلَامُ وَذَهَبَ الْخَوْفُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ تُعَاوِدَهُمْ أَخْلَاقُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ.

وَرُوِيَ هَذَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَابْنِ عُمَرَ، وَبِهِ

أَخَذَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَلَمْ يُؤْثَرْ أَنَّ أَحَدًا تَزَوَّجَ زَانِيَةً فِيمَا بَيْنَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَنُزُولِ نَاسِخِهَا، وَلَا أَنَّهُ فُسِخَ نِكَاحُ مُسْلِمٍ امْرَأَةً زَانِيَةً. وَمُقْتَضَى التَّحْرِيمِ الْفَسَادُ وَهُوَ يَقْتَضِي الْفَسْخَ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا خَاصٌّ بِهَذِهِ الْمَرْأَةِ إِذْ كَانَتْ كَافِرَةً فَأَمَّا الزَّانِيَةُ الْمُسْلِمَةُ فَإِنَّ الْعَقْدَ عَلَيْهَا لَا يُفْسَخُ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى حُكْمَهَا مُسْتَمِرًّا. وَنَسَبَ الْفَخْرُ الْقَوْلَ بِاسْتِمْرَارِ حُكْمِ التَّحْرِيمِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَنَسَبَهُ غَيْرُهُ إِلَى التَّابِعِينَ وَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ من بعد.