قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ وَإِثْبَاتِ فِسْقِهِمْ وَغَيْرُ رَاجِعٍ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، أَيْ بَعْدَ أَنْ تَحَقَّقَتِ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ فَالْحَدُّ قَدْ فَاتَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنَ اسْتِقْرَاءِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْحُدُودَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تُسْقِطُهَا تَوْبَةُ مُقْتَرِفِ مُوجِبِهَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ: الِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ جَرْيًا عَلَى أَصْلِهِ فِي عَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ الْوَارِدِ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ.
وَالتَّوْبَةُ: الْإِقْلَاعُ وَالنَّدَمُ وَظُهُورُ عَزْمِهِ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ لِمِثْلِ ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ التَّوْبَة فِي سُورَة النِّسَاءِ [١٧] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ الْآيَاتِ. وَلَيْسَ مِنْ
شَرْطِ التَّوْبَةِ أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ فِيمَا قَذَفَ بِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ صَادِقًا وَلَكِنَّهُ عَجَزَ عَنْ إِثْبَاتِ ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ عَلَى الصِّفَةِ الْمَعْلُومَةِ، فَتَوْبَتُهُ أَنْ يَصْلُحَ وَيَحْسُنَ حَالُهُ وَيَتَثَبَّتَ فِي أَمْرِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا تُعْتَبَرُ تَوْبَتُهُ حَتَّى يُكَذِّبَ نَفْسَهُ. وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَالشَّعْبِيِّ، وَلَمْ يَقْبَلْ عُمَرُ شَهَادَةَ أَبِي بَكْرَةَ لِأَنَّهُ أَبَى أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ فِيمَا رَمَى بِهِ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ. وَقَبِلَ مِنْ بَعْدُ شَهَادَةَ شِبْلِ بْنِ مَعْبَدِ وَنَافِعِ بْنِ كَلَدَةَ لِأَنَّهُمَا أَكْذَبَا أَنْفُسَهُمَا فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ وَكَانَ عُمَرُ قَدْ حَدَّ ثَلَاثَتَهُمْ حَدَّ الْقَذْفِ.
وَمَعْنَى أَصْلَحُوا فَعَلُوا الصَّلَاحَ، أَيْ صَارُوا صَالِحِينَ. فَمَفْعُولُ الْفِعْلِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ أَصْلَحُوا أَنْفُسَهُمْ بِاجْتِنَابِ مَا نُهُوا عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ [الْبَقَرَة: ١١] ، وَقَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٠] .
وَفُرِّعَ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ مَعْنَى: فَاقْبَلُوا شَهَادَتَهُمْ وَاغْفِرُوا لَهُمْ مَا سَلَفَ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، أَيْ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْمَغْفِرَةِ لَهُمْ لِأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، كَمَا قَالَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٠] : إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
وَإِنَّمَا صَرَّحَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا قُدِّرَ نَظِيرُهُ هُنَا لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَالِكَ مَقَامُ إِطْنَابٍ لِشِدَّةِ الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِهِمْ إِذْ ثَابُوا إِلَى الْإِيمَانِ وَالْإِصْلَاحِ وَبَيَانِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْهُدَى بَعْدَ مَا كَتَمُوهُ وَكَتَمَهُ سَلَفُهُمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute