لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ [النُّور: ٤٦] . وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنِ الْفَصْلِ إِلَى الْعَطْفِ لِأَنَّ هَذَا خِتَامُ التَّشْرِيعَاتِ وَالْأَحْكَامِ الَّتِي نَزَلَتِ السُّورَةُ لِأَسْبَابِهَا. وَقَدْ خُلِّلَتْ بِمِثْلِ هَذَا التَّذْيِيلِ مَرَّتَيْنِ قَبْلَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي ابْتِدَاءِ السُّورَةِ وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ [النُّور: ١] ثُمَّ قَوْلُهُ:
وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النُّور: ١٨] ثُمَّ قَوْلُهُ هُنَا: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ التَّذْيِيلَاتِ زَائِدًا عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ فَالْأَوَّلُ زَائِدٌ بِقَوْلِهِ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ [النُّور: ١٨] لِأَنَّهُ أَفَادَ أَنَّ بَيَانَ الْآيَاتِ لِفَائِدَةِ الْأُمَّةِ، وَمَا هُنَا زَادَ بِقَوْلِهِ: وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ. فَكَانَتْ كُلُّ زِيَادَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ مُقْتَضِيَةً الْعَطْفَ لِمَا حَصَلَ مِنَ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أُخْتِهَا، وَتُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدَةٍ عَطْفًا عَلَى نَظِيرَتِهَا، فَوُصِفَتِ السُّورَةُ كُلُّهَا بِثَلَاثِ صِفَاتٍ وَوُصِفَ مَا كَانَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ مُشْتَمِلًا عَلَى أَحْكَامِ الْقَذْفِ وَالْحُدُودِ وَمَا يُفْضِي إِلَيْهَا أَوْ إِلَى مُقَارِبِهَا مِنْ أَحْوَالِ الْمُعَاشَرَةِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بِثَلَاثِ صِفَاتٍ، فَقَوْلُهُ هُنَا: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ يُطَابِقُ قَوْلَهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ [النُّور: ١] ، وَقَوْلُهُ: وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ يُقَابِلُ قَوْلَهُ فِي أَوَّلِ السُّورَة وَفَرَضْناها [النُّور: ١] عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ التَّعْيِينُ وَالتَّقْدِيرُ لِأَنَّ فِي التَّمْثِيلِ تَقْدِيرًا وَتَصْوِيرًا لِلْمَعَانِي بِنَظَائِرِهَا وَفِي ذَلِكَ كَشْفٌ لِلْحَقَائِقِ، وَقَوْلُهُ: وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ يُقَابِلُ قَوْلَهُ فِي أَوَّلِهَا لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النُّور: ١] .
وَالْآيَاتُ جُمَلُ الْقُرْآنِ لِأَنَّهَا لِكَمَالِ بَلَاغَتِهَا وَإِعْجَازِهَا الْمُعَانَدِينَ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهَا كَانَتْ دَلَائِلَ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَابْتُدِئَ الْكَلَامُ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ مُبَيِّناتٍ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى صِيغَةِ الْمَفْعُولِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ بَيَّنَهَا وَوَضَّحَهَا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا أَبَانَتْ الْمَقَاصِدَ الَّتِي أُنْزِلَتْ لِأَجْلِهَا. وَمَعْنَيَا الْقِرَاءَتَيْنِ مُتَلَازِمَانِ فَبِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ تَفَاوُتٌ بَيْنَ مُفَادِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمُفَادِ قَوْلِهِ فِي نَظِيرَتِهَا وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ [النُّور: ١] فِي أَوَّلِ السُّورَةِ لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ هِيَ الْوَاضِحَةُ، أَيِ الْوَاضِحَةُ الدَّلَالَةِ وَالْإِفَادَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute