(٣٨)
تَرَدَّدَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَعَلُّقِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ مِنْ قَوْلِهِ: فِي بُيُوتٍ إِلَخْ. فَقِيلَ قَوْلُهُ:
فِي بُيُوتٍ مِنْ تَمَامِ التَّمْثِيلِ، أَيْ فَيَكُونُ فِي بُيُوتٍ مُتَعَلِّقًا بِشَيْءٍ مِمَّا قَبْلَهُ. فَقِيلَ يَتَعَلَّقُ بقوله: يُوقَدُ [النُّور: ٣٥] أَيْ يُوقِدُ الْمِصْبَاحَ فِي بُيُوتٍ. وَقِيلَ هُوَ صِفَةٌ لِمِشْكَاةٍ، أَيْ مِشْكَاةٍ فِي بُيُوتٍ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ وَإِنَّمَا جَاءَ بُيُوتٍ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ مَعَ أَنَّ مشكاة ومِصْباحٌ [النُّور: ٣٥] مُفْرَدَانِ لِأَن المُرَاد بهما الْجِنْسُ فَتَسَاوَى الْإِفْرَادُ وَالْجَمْعُ.
ثُمَّ قِيلَ: أُرِيدَ بِالْبُيُوتِ الْمَسَاجِدُ. وَلَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ مَصَابِيحُ وَإِنَّمَا أُحْدِثَتِ الْمَصَابِيحُ فِي الْمَسَاجِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
فَقَالَ لَهُ عَلَيٌّ: نَوَّرَ اللَّهُ مَضْجَعَكَ يَا بن الْخَطَّابِ كَمَا نَوَّرَتْ مَسْجِدَنَا
. وَرُوِيَ أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ أَسْرَجَ الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ بِمَصَابِيحَ جَاءَ بِهَا مِنَ الشَّامِ وَلَكِنْ إِنَّمَا أَسْلَمَ تَمِيمُ سَنَةَ تِسْعٍ، أَيْ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقِيلَ الْبُيُوتُ مَسَاجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَكَانَتْ يَوْمَئِذٍ بِيَعًا لِلنَّصَارَى.
وَيَجُوزُ عِنْدِي عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبُيُوتِ صَوَامِعَ الرُّهْبَانِ وَأَدْيِرَتَهُمْ وَكَانَتْ مَعْرُوفَةً فِي بِلَادِ الْعَرَبِ فِي طَرِيقِ الشَّامِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَيَنْزِلُونَ عِنْدَهَا فِي ضِيَافَةِ رُهْبَانِهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ «الْقَامُوسِ» عَدَدًا مِنَ الْأَدْيِرَةِ. وَيُرَجِّحُ هَذَا قَوْلُهُ: أَنْ تُرْفَعَ فَإِنَّ الصَّوَامِعَ كَانَتْ مَرْفُوعَةً وَالْأَدْيِرَةَ كَانَتْ تبنى على رُؤُوس الْجِبَالِ. أَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:
لَوْ أَبْصَرْتَ رُهْبَانَ دَيْرٍ بِالْجَبَلْ ... لَانْحَدَرَ الرُّهْبَانُ يَسْعَى وَيَصِلْ
وَالْمُرَادُ بِإِذْنِ اللَّهِ بِرَفْعِهَا أَنَّهُ أَلْهَمَ مُتَّخِذِيهَا أَنْ يَجْعَلُوهَا عَالِيَةً وَكَانُوا صالحين يقرأون الْإِنْجِيلَ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ إِلَى قَوْلِهِ: يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً [الْحَج: ٤٠] . وَعَبَّرَ بِالْإِذْنِ دُونَ الْأَمْرِ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِاتِّخَاذِ الْأَدْيِرَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute