لِمُرَاعَاةِ أَعْرَاضٍ مِنَ الْعَلَائِقِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَقَوْلِ بِشْرٍ: إِنَّ الرَّسُولَ يُبْغِضُنِي. فَبَيَّنَ اللَّهُ بُطْلَانَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَرْتَابُ فِي عَدْلِ الرَّسُولِ وَعَدَمِ مُصَانَعَتِهِ.
وَقَدْ أَفَادَ هَذَا الِاسْتِئْنَافُ أَيْضًا الثَّنَاءَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْأَحِقَّاءِ بِضِدِّ مَا كَانَ ذَمًّا لِلْمُنَافِقِينَ. وَذَلِكَ مِنْ مُنَاسَبَاتِ هَذَا الِاسْتِئْنَافِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي إِرْدَافِ التَّوْبِيخِ بِالتَّرْغِيبِ وَالْوَعِيدِ بِالْوَعْدِ وَالنِّذَارَةِ بِالْبِشَارَةِ وَالذَّمِّ بِالثَّنَاءِ.
وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ بِ إِنَّما لِدَفْعِ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفُ هَذِهِ الْحَالَةِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْإِيمَانِ وَإِنْ قَالَ بِلِسَانِهِ إِنَّهُ مُؤْمِنٌ، فَهَذَا الْقَصْرُ إِضَافِيٌّ، أَيْ هَذَا قَوْلُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ فِي إِيمَانِهِمْ لَا كَقَوْل الَّذين أَعْرَضُوا عَنْ حُكْمِ الرَّسُولِ حِينَ قَالُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا [النُّور: ٤٧] فَلَمَّا دُعُوا إِلَى حُكْمِ الرَّسُولِ عَصَوْا أَمْرَهُ فَإِنَّ إِعْرَاضَهُمْ نَقِيضُ الطَّاعَةِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ قَرِيبًا. وَلَيْسَ قصرا حَقِيقا لِأَنَّ أَقْوَالَ الْمُؤمنِينَ حِين يدعونَ إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِي قَوْلِ: سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَلَا فِي مُرَادِفِهِ، فَلَعَلَّ مِنْهُمْ مَنْ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ.
وَفِي «الْمُوَطَّأِ» مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ: «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ (يَعْنِي وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَقْضِي لَهُ كَمَا وَقَعَ التَّصْرِيحُ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ فِي «الْبُخَارِيِّ» أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: أُنْشِدُكَ بِاللَّهِ إِلَّا قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اللَّهِ) . وَقَالَ الْآخَرُ وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا:
أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَأْذَنْ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ (يُرِيدُ لَا تَقْضِ لَهُ عَلَيَّ فَأْذَنْ لِي أَنْ أُبَيِّنَ) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ تَكَلَّمْ..»
إِلَخْ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ سَمِعْنا وَأَطَعْنا خُصُوصَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ بَلِ الْمُرَادُ لَفْظُهُمَا أَوْ مُرَادِفُهُمَا لِلتَّسَامُحِ فِي مَفْعُولِ فِعْلِ الْقَوْلِ أَنْ لَا يُحْكَى بِلَفْظِهِ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ. وَإِنَّمَا خُصَّ هَذَانِ اللَّفْظَانِ بِالذِّكْرِ هُنَا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا كَلِمَةٌ مَشْهُورَةٌ تُقَالُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَهِيَ مِمَّا جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ كَمَا يُقَالُ أَيْضًا «سَمْعٌ وَطَاعَة» بِالرَّفْع و «سمعا وَطَاعَةً» بِالنَّصْبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute