للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَخَوْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ حَالَةِ رَسُولِنَا مِنَ الْأُمِّيَّةِ وَحَالَةِ الرُّسُلِ الَّذِينَ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِمُ الْكُتُبُ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا طَائِلَ فِيهِ، فَإِنَّ تِلْكَ الْكُتُبَ لَمْ تَنْزِلْ أَسْفَارًا تَامَّةً قَطُّ.

ونُزِّلَ هُنَا مُرَادِفُ أُنْزِلَ وَلَيْسَ فِيهِ إِيذَانٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّفْعِيلُ مِنَ التَّكْثِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِمْ: جُمْلَةً واحِدَةً.

وَقَدْ جَاءَ قَوْلُهُ: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ رَدًّا عَلَى طَعْنِهِمْ، فَهُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ فِيهِ رَدٌّ لِمَا أَرَادُوهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً وَعَدَلَ فِيهِ عَنْ خِطَابِهِمْ إِلَى خِطَابِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِعْلَامًا لَهُ بِحِكْمَةِ تَنْزِيلِهِ مُفَرَّقًا، وَفِي ضِمْنِهِ امْتِنَانٌ عَلَى الرَّسُولِ بِمَا فِيهِ تَثْبِيتُ قَلْبِهِ وَالتَّيْسِيرُ عَلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً إِشَارَةٌ إِلَى الْإِنْزَالِ الْمَفْهُوم من «لَو نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ» وَهُوَ حَالَةُ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ مُنَجَّمًا، أَيْ أَنْزَلْنَاهُ كَذَلِكَ الْإِنْزَالِ، أَيِ الْمُنَجَّمِ، أَيْ كَذَلِكَ الْإِنْزَالِ الَّذِي جَهِلُوا حِكْمَتَهُ، فَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ مَفْعُولٍ مُطْلَقٍ جَاءَ بَدَلًا عَنِ الْفِعْلِ. فَالتَّقْدِيرُ: أَنْزَلْنَاهُ إِنْزَالًا كَذَلِكَ الْإِنْزَالِ الْمُنَجَّمِ. فَمَوْقِعُ جُمْلَةِ كَذلِكَ مَوْقِعُ الِاسْتِئْنَافِ فِي الْمُحَاوَرَةِ. وَاللَّامُ فِي لِنُثَبِّتَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَذلِكَ. وَالتَّثْبِيتُ: جَعْلُ الشَّيْءِ ثَابِتًا.

وَالثَّبَاتُ: اسْتِقْرَارُ الشَّيْءِ فِي مَكَانِهِ غَيْرَ مُتَزَلْزِلٍ قَالَ تَعَالَى: كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ

[إِبْرَاهِيم: ٢٤] . وَيُسْتَعَارُ الثَّبَاتُ لِلْيَقِينِ وَلِلِاطْمِئْنَانِ بِحُصُولِ الْخَيْرِ لِصَاحِبِهِ قَالَ تَعَالَى: لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً [النِّسَاء: ٦٦] ، وَهِيَ اسْتِعَارَاتٌ شَائِعَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَشْبِيهِ حُصُولِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي النَّفْسِ بِاضْطِرَابِ الشَّيْءِ فِي الْمَكَانِ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ. وَالْفُؤَادُ: هُنَا الْعَقْلُ. وَتَثْبِيتُهُ بِذَلِكَ الْإِنْزَالِ جَعْلُهُ ثَابِتًا فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ لَا يَضْطَرِبُ فِيهِ.

وَجَاءَ فِي بَيَانِ حِكْمَةِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ مُنَجَّمًا بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ وَهِيَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ لِأَنَّ تَثْبِيتَ الْفُؤَادِ يَقْتَضِي كُلَّ مَا بِهِ خَيْرٌ لِلنَّفْسِ، فَمِنْهُ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْحِكْمَةُ فِي تَفْرِيقِهِ أَنْ نُقَوِّيَ بِتَفْرِيقِهِ فُؤَادَكَ حَتَّى تَعِيَهُ وَتَحْفَظَهُ، لِأَنَّ الْمُتَلَقِّنَ إِنَّمَا يَقْوَى قَلْبُهُ عَلَى حِفْظِ الْعِلْمِ يلقى إِلَيْهِ إِذْ أُلْقِيَ إِلَيْهِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَجُزْءًا