أَمَّا قَوْلُهُمْ إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَفَاخُرُهُمْ بِتَصَلُّبِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَأَنَّهُمْ كَادُوا أَنْ يَتَّبِعُوا دَعْوَةَ الرَّسُولِ بِمَا يُلْقِيهِ إِلَيْهِمْ مِنَ الْإِقْنَاعِ وَالْإِلْحَاحِ فَكَانَ تَأَثُّرُ أَسْمَاعِهِمْ بِأَقْوَالِهِ يُوشِكُ بِهِمْ أَنْ يَرْفُضُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ لَوْلَا أَنَّهُمْ تَرَيَّثُوا، فَكَانَ فِي الرَّيْثِ أَنْ أَفَاقُوا مِنْ غِشَاوَةِ أَقْوَالِهِ وَخِلَابَةِ اسْتِدْلَالِهِ وَاسْتَبْصَرُوا مَرْآهُ فَانْجَلَى لَهُمْ أَنَّهُ لَا يَسْتَأْهِلُ أَنْ يَكُونَ مَبْعُوثًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَقَدْ جَمَعُوا مِنْ كَلَامِهِمْ بَيْنَ تَزْيِيفِ حُجَّتِهِ وَتَنْوِيهِ ثَبَاتِهِمْ فِي مَقَامٍ يَسْتَفِزُّ غَيْرَ الرَّاسِخِينَ فِي الْكُفْرِ. وَهَذَا الْكَلَامُ مَشُوبٌ بِفَسَادِ الْوَضْعِ وَمُؤَلَّفٌ عَلَى طَرَائِقِ الدَّهْمَاءِ إِذْ يَتَكَلَّمُونَ كَمَا يَشْتَهُونَ وَيَسْتَبْلِهُونَ السَّامِعِينَ. وَمِنْ خِلَابَةِ الْمُغَالَطَةِ إِسْنَادُهُمْ مُقَارَبَةَ الْإِضْلَالِ إِلَى الرَّسُولِ دُونَ أَنْفُسِهِمْ تَرَفُّعًا عَلَى أَنْ يَكُونُوا قَارَبُوا الضَّلَالَ عَنْ آلِهَتِهِمْ مَعَ أَنَّ مُقَارَبَتَهُ إِضْلَالَهُمْ تَسْتَلْزِمُ اقْتِرَابَهُمْ مِنَ الضَّلَالِ.
وإِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنْ (إِنَّ) الْمُشَدَّدَةِ، وَالْأَكْثَرُ فِي الْكَلَامِ إِهْمَالُهَا، أَيْ تَرْكُ عَمَلِهَا نَصْبَ الِاسْمِ وَرَفْعَ الْخَبَرِ، وَالْجُمْلَةُ الَّتِي تَلِيهَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مُفْتَتَحَةً بِفِعْلٍ مِنْ أَخَوَاتِ كَانَ أَو من أَخَوَاتِ ظَنَّ وَهَذَا مِنْ غَرَائِبِ الِاسْتِعْمَالِ. وَلَوْ ذَهَبْنَا إِلَى أَنَّ اسْمَهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ وَأَنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي بَعْدَهَا خَبَرٌ عَنْ ضَمِيرِ الشَّأْنِ كَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ فِي (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ إِذَا خُفِّفَتْ لَمَا كَانَ ذَلِكَ بَعِيدًا. وَفِي كَلَامِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» مَا يَشْهَدُ لَهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٦٤] ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا مُسْتَأْنَفَةٌ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لَيُضِلُّنا هِيَ الْفَارِقَةُ بَين (إِن) المحققة وَبَين (إِنْ) النَّافِيَةِ.
وَالصَّبْرُ: الِاسْتِمْرَارُ عَلَى مَا يَشُقُّ عَمَلُهُ عَلَى النَّفْسِ. وَيُعَدَّى فِعْلُهُ بِحَرْفِ (عَلَى) لِمَا يَقْتَضِيهِ مِنَ التَّمَكُّنِ مِنَ الشَّيْءِ الْمُسْتَمِرِّ عَلَيْهِ.
ولَوْلا حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، أَيْ امْتِنَاعُ وُقُوعِ جَوَابِهَا لِأَجْلِ وُجُودِ شَرْطِهَا فَتَقْتَضِي جَوَابًا لِشَرْطِهَا، وَالْجَوَابُ هُنَا مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَ لَوْلا عَلَيْهِ، وَهُوَ إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا. وَفَائِدَةُ نَسْجِ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ دُونَ أَنْ يُؤْتَى بِأَدَاةِ الشَّرْطِ ابْتِدَاءً مَتْلُوَّةً بِجَوَابِهَا قَصْدُ الْعِنَايَةِ بِالْخَبَرِ ابْتِدَاءً بِأَنَّهُ حَاصِل ثمَّ يُؤْتى بِالشَّرْطِ بَعْدَهُ تَقْيِيدًا لِإِطْلَاقِ الْخَبَرِ فَالصِّنَاعَةُ النَّحْوِيَّةُ تَعْتَبِرُ الْمُقَدَّمَ دَلِيلَ الْجَوَابِ، وَالْجَوَابَ مَحْذُوفًا لِأَنَّ نَظَرَ النَّحْوِيِّ لِإِقَامَةِ أَصْلِ التَّرْكِيبِ، فَأَمَّا أَهْلُ الْبَلَاغَةِ فَيَعْتَبِرُونَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute