لِيَكُونَ مُسْتَكْمِلًا وَصْفَ الطَّهَارَةِ الْقَاصِرَةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ، فَيَكُونَ ذِكْرُ هَذَا الْوَصْفِ إِدْمَاجًا لِمِنَّةٍ فِي أَثْنَاءِ المنن الْمَقْصُودَة، وَيكون كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الْأَنْفَال: ١١] وَصَفَ الطَّهَارَةَ الذَّاتِيَّةَ وَتَطْهِيرَهُ، فَيَكُونُ هَذَا الْوَصْفُ إِدْمَاجًا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الْأَحَقُّ بِمَقَامِ الِامْتِنَانِ وَصْفُ الْمَاءِ بِالصَّفَاءِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
وَالْبَلْدَةُ: الْأَرْضُ. وَوَصْفُهَا بِالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ مَجَازَانِ لِلرَّيِّ وَالْجَفَافِ لِأَنَّ رَيَّ الْأَرْضِ يَنْشَأُ عَنْهُ النَّبَاتُ وَهُوَ يُشْبِهُ الْحَيَّ، وَجَفَافُ الْأَرْضِ يَجِفُّ بِهِ النَّبَاتُ فَيُشْبِهُ الْمَيِّتَ.
وَلِمَاءِ الْمَطَرِ خَاصِّيَّةُ الْإِحْيَاءِ لِكُلِّ أَرْضٍ لِأَنَّهُ لِخُلُوِّهِ مِنَ الْجَرَاثِيمِ وَمِنْ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ الْمَعْدِنِيَّةِ وَالتُّرَابِيَّةِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا مِيَاهُ الْعُيُونِ وَمِيَاهُ الْأَنْهَارِ وَالْأَوْدِيَةِ كَانَ صَالِحًا بِكُلِّ أَرْضٍ وَبِكُلِّ نَبَاتٍ عَلَى اخْتِلَافِ طِبَاعِ الْأَرَضِينَ وَالْمَنَابِتِ.
وَالْبَلْدَةُ: الْبَلَدُ. وَالْبَلَدُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ مِثْلَ كَثِيرٍ مِنْ أَسْمَاءِ أَجْنَاسِ الْبِقَاعِ كَمَا قَالُوا: دَارٌ وَدَارَةٌ. وَوُصِفَتِ الْبَلْدَةُ بِمَيِّتٍ، وَهُوَ وَصْفٌ مُذَكِّرٌ لِتَأْوِيلِ بَلْدَةً بِمَعْنَى مَكَانٍ لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ. وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» مَا مَعْنَاهُ: إِنَّهُ لَمَّا دَلَّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الِاتِّصَافِ بِالْمَوْتِ وَلَمْ يَكُنْ جَارِيًا عَلَى أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الِاسْمِ الْجَامِدِ (أَيْ فَلَمْ يُغَيَّرْ) . وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ اسْمُ الْمَيِّتِ، وَوَصْفُ الْبَلْدَةِ بِهِ وَصْفٌ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ.
وَفِي قَوْلِهِ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً إِيمَاءٌ إِلَى تَقْرِيبِ إِمْكَانِ الْبَعْثِ.
ونُسْقِيَهُ بِضَمِّ النُّونِ مُضَارِعُ أَسْقَى مِثْلَ الَّذِي بِفَتْحِ النُّونِ فَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ يُقَالُ:
أَسْقَى وَسَقَى. قَالَ تَعَالَى: قالَتا لَا نَسْقِي [الْقَصَص: ٢٣] بِفَتْحِ النُّونِ. وَقِيلَ: سَقَى: أَعْطَى الشَّرَابَ، وَأَسْقَى: هَيَّأَ الْمَاءَ لِلشُّرْبِ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَسَدُّ لِأَنَّ الْفُرُوقَ بَيْنَ مَعَانِي الْأَلْفَاظِ مِنْ مَحَاسِنِ اللُّغَةِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى هَيَّأْنَاهُ لِشُرْبِ الْأَنْعَامِ وَالْأَنَاسِيِّ فَكُلُّ مَنِ احْتَاجَ لِلشُّرْبِ شَرِبَ مِنْهُ سَوَاءٌ مَنْ شَرِبَ وَمَنْ لَمْ يَشْرَبْ.
وأَنْعاماً مَفْعُولٌ ثَانٍ لِ نُسْقِيَهُ. وَقَوْلُهُ: مِمَّا خَلَقْنا حَالٌ مِنْ أَنْعاماً وَأَناسِيَّ. و (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ. وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ، أَيْ بَعْضَ مَا خَلَقْنَاهُ، وَالْمَوْصُولُ لِلْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ الْخَبَرِ، أَيْ نُسْقِيهِمْ لِأَنَّهُمْ مَخْلُوقَاتٌ. فَفَائِدَةُ هَذَا الْحَالِ الْإِشَارَةُ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ بِهَا لِأَنَّهَا خَلْقُهُ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَنْوَاعًا أُخْرَى مِنَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute