للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حَتَّى يَحْسَبُوا أَنَّهُمْ إِنْ أَعْرَضُوا عَنْهُ فَقَدْ بَلَغُوا مِنَ النِّكَايَةِ بِهِ أَمَلَهُمْ، بَلْ مَا عَلَيْهِ إِلَّا التَّبْلِيغُ بِالتَّبْشِيرِ وَالنِّذَارَةِ لِفَائِدَتِهِمْ لَا يُرِيدُ مِنْهُمُ الْجَزَاءَ عَلَى عَمَلِهِ ذَلِكَ.

وَالْأَجْرُ: الْعِوَضُ عَلَى الْعَمَلِ وَلَوْ بِعَمَلٍ آخَرَ يُقْصَدُ بِهِ الْجَزَاءُ.

وَالِاسْتِثْنَاءُ تَأْكِيدٌ لِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ يَسْأَلُهُمْ أَجْرًا لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحْوَالٍ عَامَّةٍ مَحْذُوفٍ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِعْيَارُ الْعُمُومِ فَلِذَلِكَ كَثُرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُجْعَلَ تَأْكِيدُ الْفِعْلِ فِي صُورَةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَيُسَمَّى تَأْكِيدَ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ، وَبِعِبَارَةٍ أَتْقَنَ تَأْكِيدَ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ وَهُوَ مَرْتَبَتَانِ: مِنْهُ مَا هُوَ تَأْكِيدٌ مَحْضٌ وَهُوَ مَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى فِيهِ مُنْقَطِعًا عَنِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَصْلًا كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:

وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ

فَإِنَّ فُلُولَ سُيُوفِهِمْ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْعَيْبِ فِيهِمْ بِحَالٍ وَمِنْهُ مَرْتَبَةُ مَا هُوَ تَأْكِيدٌ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ مَا الْمُسْتَثْنَى فِيهِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَكِنَّهُ قَرِيبٌ مِنْهُ بِالْمُشَابَهَةِ لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُشَبَّهِ بِهِ بِمَا تَضَمَّنَهُ الِاسْتِثْنَاءُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: ٢٣] ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونَ يَسْأَلُهُمْ أَجْرًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي قَوْله تَعَالَى قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: ٨٦] . فَقَوْلُهُ تَعَالَى:

إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا مِنْ قَبِيلِ الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ يُنَاسِبُ أَجْرًا إِذِ التَّقْدِيرُ: إِلَّا عَمَلَ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا، وَذَلِكَ هُوَ اتِّبَاعُ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا إِجَابَةً لِدَعْوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْبَهَ الْأَجْرَ عَلَى تِلْكَ الدَّعْوَةِ فَكَانَ نَظِيرَ قَوْلِهِ قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: ٢٣] . وَقَدْ يُسَمُّونَ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ وَيُقَدِّرُونَهُ كَالِاسْتِدْرَاكِ.

وَالسَّبِيلُ: الطَّرِيقُ. وَاتِّخَاذُ السَّبِيلِ تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [الْفرْقَان: ٢٧] . وَجُعِلَ السَّبِيلُ هُنَا إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى إِجَابَتِهِ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ وَهَذَا

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً [النبأ: ٣٩] .

وَذِكْرُ وَصْفِ الرَّبِّ دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اسْتِحْقَاقِهِ السَّيْرَ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَحْقُوقٌ بِأَنْ يَرْجِعَ إِلَى رَبِّهِ وَإِلَّا كَانَ آبقا.