حَتَّى يُفْشِيَ كُلٌّ مِنْهُمْ سِرَّ الْآخَرِ فَيَتَّخِذَ السَّاحِرُ تِلْكَ الْأَسْرَارَ وَسِيلَةً يُلْقِي بِهَا الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ أَصْحَابِهَا بِإِظْهَارِ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ وَالضَّمَائِرَ، ثُمَّ هُوَ يَأْمُرُ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرْهَبَهُمْ وَيَسْتَخْدِمُهُمْ بِمَا يَشَاءُ فَيُطِيعُونَهُ فَيَأْمُرُ الْمَرْأَةَ بِمُغَاضَبَةِ زَوْجِهَا وَطَلَبِ فِرَاقِهِ وَيَأْمُرُ الزَّوْجَ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ وَهَكَذَا، وَفِي هَذَا الْقِسْمِ تَظْهَرُ مَقْدِرَةُ السَّاحِرِ الْفِكْرِيَّةُ وَبِهِ تَكْثُرُ أَضْرَارُهُ وَأَخْطَارُهُ عَلَى النَّاسِ وَجُرْأَتُهُ على ارْتِكَاب المرغبات وَالْمُطَوِّعَاتِ بِاسْتِئْصَالِ الْأَمْوَالِ بِالسَّرِقَةِ يَسْرِقُهَا مَنْ لَا يَتَّهِمُهُ الْمَسْرُوقُ، وَمِنْهُ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ خَاصَّتِهِ وَأَبْنَائِهِ وَزَوْجِهِ الَّذِينَ يَسْتَهْوِيهِمُ السَّحَرَةُ وَيُسَخِّرُونَهُمْ لِلْإِخْلَاصِ لَهُمْ، وَيَنْتَهِي فِعْلُ السَّحَرَةِ فِي هَذَا إِلَى حَدِّ إِزْهَاقِ النُّفُوسِ الَّتِي يَشْعُرُونَ بِأَنَّهَا تَفَطَّنَتْ لِخَدِيعَتِهِمْ أَوِ الَّتِي تَعَاصَتْ عَنِ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِمْ يُغْرُونَ بِهَا مَنْ هِيَ آمَنُ النَّاسِ مِنْهُ، ثُمَّ اسْتِطْلَاعُ ضَمَائِرِ النَّاسِ بِتَقْرِيرَاتٍ خَفِيَّةٍ وَأَسْئِلَةٍ تَدْرِيجِيَّةٍ يُوهِمُهُ بِهَا أَنَّهُ يَسْأَلُهُ عَنْهَا لِيُعْلِمَهُ بِمُسْتَقْبَلِهِ.
وَنَوْعٌ: يُجْعَلُ اخْتِبَارًا لِمِقْدَارِ مَرَاتِبِ أَذْهَانِ النَّاسِ فِي قَابِلِيَّةِ سِحْرِهِ وَذَلِكَ بِوَضْعِ أَشْيَاءَ فِي الْأَطْعِمَةِ خِيفَةَ الظُّهُورِ لِيَرَى هَلْ يَتَفَطَّنُ لَهَا مَنْ وَضَعَهَا، وَبِإِبْرَازِ خَيَالَاتٍ أَوْ أَشْبَاحٍ يُوهِمُ بِهَا النَّاظِرَ أَنَّهَا جِنٌّ أَوْ شَيَاطِينُ أَوْ أَرْوَاحٌ، وَمَا هِيَ إِلَّا أَشْكَالٌ مُمَوَّهَةٌ أَوْ أَعْوَانٌ مِنْ أَعْوَانِهِ مُتَنَكِّرَةٌ، لِيَنْظُرَ هَلْ يَقْتَنِعُ رَائِيهَا بِمَا أَخْبَرَهُ السَّاحِرُ عَنْهَا أَمْ يَتَطَلَّبُ كَشْفَ حَقِيقَتِهَا أَوِ اسْتِقْصَاءَ أَثَرِهَا.
فَكَانَ السِّحْرُ قَرِينَ خَبَاثَةِ نَفْسِ، وَفَسَادِ دِينٍ، وَشَرِّ عَمَلٍ، وَإِرْعَابٍ وَتَهْوِيلٍ عَلَى النَّاسِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَا فَتِئَتِ الْأَدْيَانُ الْحَقَّةُ تُحَذِّرُ النَّاسَ مِنْهُ وَتَعُدُّ الِاشْتِغَالَ بِهِ مُرُوقًا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِقَادِ تَأْثِيرِ الْآلِهَةِ وَالْجِنِّ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْآلِهَةِ فِي عَقَائِدِ الْأَقْدَمِينَ، وَقَدْ حَذَّرَ مُوسَى قَوْمَهُ مِنَ السِّحْرِ وَأَهْلِهِ فَفِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ الْإِصْحَاحِ ١٨ أَنَّ مِمَّا خَاطَبَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْمَهُ: «مَتَى دَخَلْتَ الْأَرْضَ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلَهُكَ لَا تَتَعَلَّمْ
أَنْ تَفْعَلَ مِثْلَ رِجْسِ أُولَئِكَ الْأُمَمِ لَا يُوجَدْ فِيكَ مَنْ يُجِيزُ (١) ابْنَهُ أَوِ ابْنَتَهُ فِي النَّارِ وَلَا مَنْ يَعْرُفُ عِرَافَةً وَلَا عَائِفٌ وَلَا مُتَفَائِلٌ وَلَا سَاحِرٌ وَلَا مَنْ يَرْقِي رُقْيَةً وَلَا مَنْ يَسْأَلُ جَانًّا أَوْ تَابِعَةً وَلَا مَنْ يَسْتَثِيرُ الْمَوْتَى» . وَجَعَلَتِ التَّوْرَاةُ جَزَاءَ السَّحَرَةِ الْقَتْلَ فَفِي سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ الْإِصْحَاحَيْنِ ٢٠- ٢٧ «وَإِذَا كَانَ فِي رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ جَانٌّ أَوْ تَابِعَةٌ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ» .
(١) «الْمُنْتَقى» للباجي ٧/ ١١٧. جَامع الْعقل. قتل الغيلة (مصححه) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute