صُوَرًا لِلْأُمَمِ غَيْرَ صُوَرِ الْقَبَائِلِ الَّذِينَ يَغْزُوهُمْ فِرْعَوْنُ وَيَأْتِي بِأَسْرَاهُمْ فِي الْأَغْلَالِ وَالسَّلَاسِلِ خَاضِعِينَ عَابِدِينَ حَتَّى يُخَيِّلَ لِقَوْمِهِ أَنَّهُ لَمَّا غَلَبَ أُولَئِكَ فَقَدْ كَانَ قَهَّارَ الْبَشَرِ كُلِّهِمْ، وَيُخْفِي أَخْبَارَ انْكِسَارِهِ إِلَّا إِذَا لَحِقَهُ غَلَبٌ عَظِيمٌ مِنْ أُمَّةٍ كُبْرَى بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ إِخْفَاءَهُ، فَحِينَئِذٍ يَنْتَقِلُ أُسْلُوبُ التَّارِيخِ عِنْدَهُمْ وَتَنْتَحِلُ الدَّوْلَةُ الْجَدِيدَةُ أَسَالِيبَ الدَّوْلَةِ الْمَاضِيَةِ وَتَنْسَى حَوَادِثَ الْمَاضِي وَتَغْلِبُ عَلَى
مُخَيَّلَاتِهِمُ الْحَالَةُ الْحَاضِرَةُ، وَلِلدُّعَاةِ وَالْمُرَوِّجِينَ أَثَرٌ كَبِيرٌ فِي ذَلِكَ. وَبِهَذَا يَتَّضِحُ بَاعِثُ فِرْعَوْنَ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ الَّذِي أَلْقَاهُ عَلَى مُوسَى، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَشُوبٌ بِتَعَجُّبٍ وَإِنْكَارٍ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ.
وَمِنْ دَقَائِقِ هَذِهِ الْمُجَادَلَةِ أَنَّ الِاسْتِفْسَارَ مُقَدَّمٌ فِي الْمُنَاظَرَاتِ، وَلِذَلِكَ ابْتَدَأَ فِرْعَوْنُ بِالسُّؤَالِ عَنْ حَقِيقَةِ الَّذِي أَرْسَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَكَانَ جَوَابُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيَانًا لِحَقِيقَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِمَا يَصِيرُ وَصْفُهُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ نَصًّا لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَا أَرَادَهُ مِنْ ظَاهِرِهِ، فَأَتَى بِشَرْحِ اللَّفْظِ بِمَا هُوَ تَفْصِيلٌ لِمَعْنَاهُ، إِذْ قَالَ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا، فبذكر السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَبِعُمُومِ مَا بَيْنَهُمَا حَصَلَ بَيَانُ حَقِيقَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ بِ مَا وَمَرْجِعُ هَذَا الْبَيَانِ إِلَى أَنَّهُ تَعْرِيفٌ لِحَقِيقَةِ الرَّبِّ بِخَصَائِصِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ غَايَةُ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْعُقُولُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ أَنْ يُعْرَفَ بِآثَارِ خَلْقِهِ، فَهُوَ تَعْرِيفٌ رَسْمِيٌّ فِي الِاصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِيِّ.
وَانْتَظَمَ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ عَلَى طَرِيقَةِ السُّؤَالِ بِكَلِمَةِ مَا عَنِ الْجِنْسِ. وَهُوَ جَارٍ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ فِي تَقْرِيرِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابُ مِنْ كَلَامِ «الْكَشَّافِ» ، وَهُوَ أَيْضًا مُخْتَارُ السَّكَّاكِيِّ فِي قَانُونِ الطَّلَبِ مِنْ كِتَابِ «الْمِفْتَاحِ» ، وَطَابَقَ الْجَوَابُ السُّؤَالَ تَمَامَ الْمُطَابَقَةِ.
وَأَشَارَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَصَرَّحَ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» بِأَنَّ جَوَابَ مُوسَى بِمَا يُبَيِّنُ حَقِيقَةَ رَبُّ الْعالَمِينَ تَضَمَّنَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى ثَبَاتِ الْخَالِقِ الْوَاحِدِ يَحْصُلُ بِالنَّظَرِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا نَظَرًا يُؤَدِّي إِلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الرَّبِّ الْوَاحِدِ الْمُمْتَازَةِ عَنْ حَقَائِقِ الْمَخْلُوقَاتِ.
وَلِهَذَا أَتْبَعَ بَيَانَهُ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، أَي إِن كُنْتُمْ مُسْتَعِدِّينَ لِلْإِيقَانِ طَالِبِينَ لِمَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ غَيْرَ مُكَابِرِينَ. وَسُمِّيَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ إِيقَانًا لِأَنَّ شَأْنَ الْيَقِينِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute