للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَوْ أَوْحَى أَوْ أَلْهَمَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ أَنْ يَكْشِفَا دَقَائِقَ هَذَا الْفَنِّ لِلنَّاسِ حَتَّى يَشْتَرِكَ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي ذَلِكَ فَيَعْلَمُوا أَنَّ السَّحَرَةَ لَيْسُوا عَلَى ذَلِكَ وَيَرْجِعَ النَّاسُ إِلَى صَلَاحِ الْحَالِ فَانْدَفَعَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ فَسَتَعْرِفُ دَفْعَهُ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ:

وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ الْآيَةَ.

وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ (الْمَلِكَيْنِ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَهِيَ قِرَاءَةٌ صَحِيحَةُ الْمَعْنَى فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ مَلِكَيْنِ كَانَا يَمْلِكَانِ بِبَابِلَ قَدْ عَلِمَا عِلْمَ السِّحْرِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ اللَّامِ فَالْأَظْهَرُ فِي تَأْوِيلِهِ أَنَّهُ اسْتِعَارَةٌ وَأَنَّهُمَا رَجُلَانِ صَالِحَانِ كَانَ حَكَمَا مَدِينَةَ بَابِلَ وَكَانَا قَدِ اطَّلَعَا عَلَى أَسْرَارِ السِّحْرِ الَّتِي كَانَتْ تَأْتِيهَا السَّحَرَةُ بِبَابِلَ أَوْ هُمَا وَضَعَا أَصْلَهُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ كُفْرٌ فَأَدْخَلَ عَلَيْهِ النَّاسُ الْكُفْرَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقِيلَ هُمَا مَلَكَانِ أَنْزَلَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَشَكَّلَا لِلنَّاسِ يُعَلِّمَانِهِمُ السِّحْرَ لِكَشْفِ أَسْرَارِ السَّحَرَةِ لِأَنَّ السَّحَرَةَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آلِهَةٌ أَوْ رُسُلٌ فَكَانُوا يُسَخِّرُونَ الْعَامَّةَ لَهُمْ فَأَرَادَ اللَّهُ تَكْذِيبَهُمْ ذَبَّا عَنْ مَقَامِ النُّبُوءَةِ فَأَنْزَلَ مَلَكَيْنِ لِذَلِكَ.

وَقَدْ أُجِيبُ بِأَنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ فِي زَمَنِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ جَائِزٌ عَلَى جِهَةِ الِابْتِلَاءِ مِنَ اللَّهِ لِخَلْقِهِ فَالطَّائِعُ لَا يَتَعَلَّمُهُ وَالْعَاصِي يُبَادِرُ إِلَيْهِ وَهُوَ فَاسِدٌ لِمُنَافَاتِهِ عُمُومَ قَوْلِهِ: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ قَالُوا: كَمَا امْتَحَنَ اللَّهُ قَوْمَ طَالُوتَ بِالنَّهْرِ إِلَخْ وَلَا يَخْفَى فَسَادُ التَّنْظِيرِ.

وَبَابِلُ بَلَدٌ قَدِيمٌ مِنْ مُدُنِ الْعَالَمِ وَأَصْلُ الِاسْمِ بِاللُّغَةِ الْكَلْدَانِيَّةِ بَابُ إِيلُو أَيْ بَابُ اللَّهِ وَيُرَادِفُهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ بَابُ إِيلَ وَهُوَ بَلَدٌ كَائِنٌ عَلَى ضَفَّتَيِ الْفُرَاتِ بِحَيْثُ يَخْتَرِقُهُ الْفُرَاتُ يَقْرُبُ مَوْضِعُهُ مِنْ مَوْقِعِ بَلَدِ الْحِلَّةِ الْآنَ عَلَى بُعْدِ أَمْيَالٍ مِنْ مُلْتَقَى الْفُرَاتِ وَالدِّجْلَةِ. كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ مُدُنِ الْعَالَمِ الْقَدِيمِ بَنَاهَا أَوَّلًا أَبْنَاءُ نُوحٍ بَعْدَ الطُّوفَانِ فِيمَا يُقَالُ ثُمَّ تَوَالَى عَلَيْهَا اعْتِنَاءُ أَصْحَابِ الْحَضَارَةِ بِمُوَاطِنِ الْعِرَاقِ فِي زَمَنِ الْمَلِكِ النَّمْرُوذِ فِي الْجِيلِ الثَّالِثِ مِنْ أَبْنَاءِ نُوحٍ وَلَكِنَّ ابْتِدَاءَ عَظَمَةِ بَابِلَ كَانَ فِي حُدُودِ سَنَةِ ٣٧٥٥ ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَسَبْعِمِائَةٍ وَخَمْسٍ وَخَمْسِينَ قَبْلَ الْمَسِيحِ فَكَانَتْ إِحْدَى عَوَاصِمَ أَرْبَعَةٍ لِمَمْلَكَةِ الْكَلْدَانِيِّينَ وَهِيَ أَعْظَمُهَا وَأَشْهَرُهَا وَلَمْ تَزَلْ هِمَمُ مُلُوكِ الدَّوْلَتَيْنِ الْكَلْدَانِيَّةِ وَالْأَشُورِيَّةِ مُنْصَرِفَةً إِلَى تَعْمِيرِ هَذَا الْبَلَدِ وَتَنْمِيقِهِ فَكَانَ بَلَدَ الْعَجَائِبِ مِنَ الْأَبْنِيَةِ وَالْبَسَاتِينِ وَمَنْبَعِ الْمَعَارِفِ الْأَسْيَوِيَّةِ وَالْعَجَائِبِ السِّحْرِيَّةِ وَقَدْ نَسَبُوا إِلَيْهَا قَدِيمًا الْخَمْرَ الْمُعَتَّقَةَ وَالسِّحْرَ قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: