ابْتِهَالٌ أَرْجَى لِلْقَبُولِ كَالدُّعَاءِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ وَعِنْدَ إِفْطَارِ الصَّائِمِ وَدُعَاءِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَالدُّعَاءِ عِنْدَ الزَّحْفِ، وَكُلُّهَا فَرَاغٌ مِنْ عِبَادَاتٍ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ دُعَاؤُهُ عِنْدَ الِانْتِهَاءِ مِنْ بِنَاءِ أَسَاسِ الْكَعْبَةِ الْمَحْكِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ إِلَى قَوْلِهِ: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ إِلَى إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الْبَقَرَة: ١٢٧- ١٢٩] وَابْتَدَأَ بِنَفْسِهِ فِي أَعْمَالِ هَذَا الدِّينِ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَعْرَاف: ١٤٣] ، وَكَمَا أُمِرَ رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَالَ: وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ [الزمر: ١٢] .
وَلِلْأَوَّلِيَّاتِ فِي الْفَضَائِلِ مَرْتَبَةٌ مَرْغُوبَةٌ، قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ «أَنَا أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَبِضِدِّ ذَلِك أوليات المساويء
فَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ»
. وَقَدْ قَابَلَ إِبْرَاهِيمُ فِي دُعَائِهِ النِّعَمَ الْخَمْسَ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ:
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ إِلَى قَوْلِهِ: يَوْمَ الدِّينِ [الشُّعَرَاء: ٧٨- ٨٢] الرَّاجِعَةَ إِلَى مَوَاهِبَ حِسِّيَّةٍ بِسُؤَالِ خَمْسِ نِعَمٍ رَاجِعَةٍ إِلَى الْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ كَمَا أَوْمَأَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَأَقْحَمَ بَيْنَ طَلَبَاتِهِ سُؤَالَهُ الْمَغْفِرَةَ لِأَبِيهِ لِأَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ.
فَابْتِدَاءُ دُعَائِهِ بِأَنْ يعْطى حكما. وَالْحكم: هُوَ الْحِكْمَةُ وَالنُّبُوءَةُ، قَالَ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ: آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً [الْقَصَص: ١٤] أَيِ النُّبُوءَةَ، وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ حِينَ دَعَا نَبِيئًا فَلِذَلِكَ كَانَ السُّؤَالُ طَلَبًا لِلِازْدِيَادِ لِأَنَّ مَرَاتِبَ الْكَمَالِ لَا حَدَّ لَهَا بِأَنْ يُعْطَى الرِّسَالَةَ مَعَ
النُّبُوءَةِ أَوْ يُعْطَى شَرِيعَةً مَعَ الرِّسَالَةِ، أَوْ سَأَلَ الدَّوَامَ عَلَى ذَلِكَ.
ثُمَّ ارْتَقَى فَطَلَبَ إِلْحَاقَهُ بِالصَّالِحِينَ. وَلَفْظُ الصَّالِحِينَ يَعُمُّ جَمِيعَ الصَّالِحِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، فَيَكُونُ قَدْ سَأَلَ بُلُوغَ دَرَجَاتِ الرُّسُلِ أُولِي الْعَزْمِ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَجَعَلَ الصَّالِحِينَ آخِرًا لِأَنَّهُ يَعُمُّ، فَكَانَ تَذْيِيلًا.
ثُمَّ سَأَلَ بَقَاءَ ذِكْرٍ لَهُ حَسَنٍ فِي الْأُمَمِ وَالْأَجْيَالِ الْآتِيَةِ مِنْ بَعْدِهِ. وَهَذَا يَتَضَمَّنُ سُؤَالَ الدَّوَامِ وَالْخِتَامِ عَلَى الْكَمَالِ وَطَلَبَ نَشْرِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَهَذَا مَا تَتَغَذَّى بِهِ الرُّوحُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute