وَجُمْلَةُ: لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَ (لَعَلَّ) لِلتَّرَجِّي، وَهُوَ طَلَبُ الْمُتَكَلِّمِ شَيْئًا مُسْتَقْرَبَ الْحُصُولِ، وَالْكَلَامُ تَهَكُّمٌ بِهِمْ، أَيْ أَرْجُو لَكُمُ الْخُلُودَ بِسَبَبِ تِلْكَ الْمَصَانِعِ. وَقِيلَ:
جَعَلَتْ عَادٌ بِنَايَاتٍ عَلَى الْمُرْتَفَعَاتِ عَلَى الطُّرُقِ يَعْبَثُونَ فِيهَا وَيَسْخَرُونَ بِالْمَارَّةِ. وَقَدْ يُفَسَّرُ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْأُمَّةَ فِي حَالِ انْحِطَاطِهَا حَوَّلَتْ مَا كَانَ مَوْضُوعًا لِلْمَصَالِحِ إِلَى مَفَاسِدَ فَعَمَدُوا إِلَى مَا كَانَ مَبْنِيًّا لِقَصْدِ تَيْسِيرِ السَّيْرِ وَالْأَمْنِ عَلَى السَّابِلَةِ مِنَ الضَّلَالِ فِي الْفَيَافِي الْمُهْلِكَةِ فَجَعَلُوهُ مَكَامِنَ لَهْوٍ وَسُخْرِيَةٍ، كَمَا اتُّخِذَتْ بَعْضُ أَدْيِرَةِ النَّصَارَى فِي بِلَادِ الْعَرَبِ مَجَالِسَ خَمْرٍ، وَكَمَا أَدْرَكْنَا الصَّهَارِيجَ الَّتِي فِي قَرْطَاجَنَّةَ كَانَتْ خَزَّانًا لِمِيَاهِ زَغْوَانَ الْمُنْسَابَةِ إِلَيْهَا عَلَى الْحَنَايَا فَرَأَيْنَاهَا مَكَامِنَ لِلِّصُوصِ وَمَخَازِنَ لِلدَّوَابِّ إِلَى أَوَّلِ هَذَا الْقَرْنِ سَنَةَ ١٣٠٣ هـ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمَصَانِعَ قُصُورٌ عَظِيمَةٌ اتَّخَذُوهَا فَيَكُونُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْإِسْرَافِ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى أَبْنِيَةٍ رَاسِخَةٍ مَكِينَةٍ كَأَنَّهَا تَمْنَعُهُمْ مِنَ الْمَوْتِ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ مَسُوقًا مَسَاقَ الْمَوْعِظَةِ مِنَ التَّوَغُّلِ فِي التَّرَفِ وَالتَّعَاظُمِ. هَذَا مَا اسْتَخْلَصْنَاهُ مِنْ كَلِمَاتٍ انْتَثَرَتْ فِي أَقْوَالٍ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى حِيرَةٍ مِنْ خِلَالِ كَلَامِهِمْ فِي تَوْجِيهِ إِنْكَارِ هُودٍ عَلَى قَوْمِهِ عَمَلَيْنِ كَانَا مَعْدُودَيْنِ فِي النَّافِعِ مِنْ أَعْمَالِ الْأُمَمِ، وَأَحْسَبُ أَنْ قَدْ أَزَلْنَا تِلْكَ الْحَيْرَةَ.
وَقَوْلُهُ: وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ أَعْقَبَ بِهِ مَوْعِظَتَهُمْ عَلَى اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا بِأَنَّ وَعْظَهُمْ عَلَى الشِّدَّةِ عَلَى الْخَلْقِ فِي الْعُقُوبَةِ، وَهَذَا مِنْ عَدَمِ التَّوَازُنِ فِي الْعُقُولِ فَهُمْ يَبْنُونَ الْعَلَامَاتِ لِإِرْشَادِ السَّابِلَةِ وَيَصْطَنِعُونَ الْمَصَانِعَ لِإِغَاثَةِ الْعِطَاشِ فَكَيْفَ يُلَاقِي هَذَا التَّفْكِيرُ تَفْكِيرًا بِالْإِفْرَاطِ فِي الشِّدَّةِ عَلَى النَّاسِ فِي الْبَطْشِ بِهِمْ، أَيْ عُقُوبَتِهِمْ.
وَالْبَطْشُ: الضَّرْبُ عِنْدَ الْغَضَبِ بِسَوْطٍ أَوْ سَيْفٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ [١٩٥] .
وجَبَّارِينَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ بَطَشْتُمْ وَهُوَ جَمْعُ جَبَّارٍ، وَالْجَبَّارُ: الشَّدِيدُ فِي غَيْرِ الْحَقِّ، فَالْمَعْنَى: إِذَا بَطَشْتُمْ كَانَ بَطْشُكُمْ فِي حَالَةِ التَّجَبُّرِ، أَيِ الْإِفْرَاطُ فِي الْأَذَى وَهُوَ ظُلْمٌ، قَالَ تَعَالَى: إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ [الْقَصَص: ١٩] . وَشَأْنُ الْعِقَابِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَدٌّ مُنَاسِبٌ لِلذَّنْبِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute