مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْوَاوِ فِي أَتَأْتُونَ. ومِنَ فَصْلِيَّةٌ، أَيْ تُفِيدُ مَعْنَى الْفَصْلِ بَيْنَ مُتَخَالِفَيْنِ بِحَيْثُ لَا يُمَاثِلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرُ. فَالْمَعْنَى: مَفْصُولَيْنِ مِنَ الْعَالَمِينَ لَا يُمَاثِلُكُمْ فِي ذَلِكَ صِنْفٌ مِنَ الْعَالَمِينَ. وَهَذَا الْمَعْنَى جَوَّزَهُ فِي «الْكَشَّافِ» ثَانِيًا وَهُوَ أَوْفَقُ بِمَعْنَى: الْعالَمِينَ الَّذِي الْمُخْتَارُ فِيهِ أَنَّهُ جَمْعُ (عَالَمٍ) بِمَعْنَى النَّوْعِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ.
وَإِثْبَاتُ مَعْنَى الْفَصْلِ لِحَرْفِ مِنَ قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ، وَمَثَّلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [الْبَقَرَة: ٢٢٠] ، وَقَوْلِهِ: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الْأَنْفَال: ٣٧] .
وَنَظَرَ فِيهِ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» وَهُوَ مَعْنًى رَشِيقٌ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ مَعْنَى الِابْتِدَاءِ وَمَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٠] .
وَالْمَعْنَى: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مُخَالِفِينَ جَمِيعَ الْعَالَمِينَ مِنَ الْأَنْوَاعِ الَّتِي فِيهَا ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ فَإِنَّهَا لَا يُوجَدُ فِيهَا مَا يَأْتِي الذُّكُورَ.
فَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ الْفَظِيعَ مُخَالِفٌ لِلْفِطْرَةِ لَا يَقَعُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْعَجَمِ فَهُوَ عَمَلٌ ابْتَدَعُوهُ مَا فَعَلَهُ غَيْرُهُمْ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ [العنكبوت: ٢٨] .
وَالْمُرَادُ بِالْأَزْوَاجِ: الْإِنَاثُ مِنْ نَوْعٍ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْأَزْوَاجِ عَلَيْهِنَّ مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِعَلَاقَةِ الْأَوَّلِ، فَفِي هَذَا الْمَجَازِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُ يَرْجُو ارْعِوَاءَهُمْ.
وَفِي قَوْلِهِ: مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ إِيمَاءٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالصَّلَاحِيَةِ الْفِطْرِيَّةِ لِعَمَلٍ عَلَى بُطْلَانِ عَمَلٍ يُضَادُّهُ، لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِلْفِطْرَةِ. فَهُوَ مِنْ تَغْيِيرِ الشَّيْطَانِ وَإِفْسَادِهِ لِسُنَّةِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النِّسَاء: ١١٩] .
وبَلْ لِإِضْرَابِ الِانْتِقَالِ مِنْ مَقَامِ الْمَوْعِظَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ إِلَى مَقَامِ الذَّمِّ تَغْلِيظًا لِلْإِنْكَارِ بَعْدَ لِينِهِ لِأَنَّ شَرَفَ الرِّسَالَةِ يَقْتَضِي الْإِعْلَانَ بِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ وَالْأَخْذِ بِأَصْرَحِ مَرَاتِبِ الْإِعْلَانِ فَإِنَّهُ إِنِ اسْتَطَاعَ بِلِسَانِهِ غَلِيظَ الْإِنْكَارِ لَا يَنْزِلُ مِنْهُ إِلَى ليّنه وَأَنه يبتدىء بِاللِّينِ فَإِنْ لَمْ يَنْفَعِ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ وَلِذَلِكَ انْتَقَلَ لُوطٌ مِنْ قَوْلِهِ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute