للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْمَعْنَى: فَإِنْ عَصَاكَ أَهْلُ عَشِيرَتِكَ فَتَبَرَّأْ مِنْهُمْ. وَلَمَّا كَانَ التَّبَرُّؤُ يُؤْذِنُ بِحُدُوثِ مُجَافَاةٍ وَعَدَاوَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ ثَبَّتَ اللَّهُ جَأْشَ رَسُولِهِ بِأَنْ لَا يَعْبَأَ بِهِمْ وَأَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ فَهُوَ كَافِيهِ كَمَا قَالَ: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطَّلَاق: ٣] . وَعَلَّقَ التَّوَكُّلَ بِالِاسْمَيْنِ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ وَمَا تَبِعَهُمَا من الْوَصْف بالموصول وَمَا ذَيَّلَ بِهِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُلَاحِظُ قَوْلَهُ وَيَعْلَمُ نِيَّتَهُ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ يَأْتِي بِمَا أَوْمَأَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الصِّفَاتُ وَمُسْتَتْبَعَاتُهَا بِوَصْفِ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ بِعِزَّتِهِ قَادِرٌ عَلَى تَغَلُّبِهِ عَلَى عَدُوِّهِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَأَنَّهُ بِرَحْمَتِهِ يَعْصِمُهُ مِنْهُمْ. وَقَدْ لُوحِظَ هَذَانِ الِاسْمَانِ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَالتَّوَكُّلُ: تَفْوِيضُ الْمَرْءِ أَمْرَهُ إِلَى مَنْ يَكْفِيهِ مُهِمَّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٩] .

وَوَصْفُهُ تَعَالَى: بِ الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ

مَقْصُودٌ بِهِ لَازِمُ مَعْنَاهُ. وَهُوَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَحَلِّ الْعِنَايَةِ مِنْهُ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ تَوَجُّهَهُ إِلَى اللَّهِ وَيَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَراكَ

رُؤْيَةً خَاصَّةً وَهِيَ رُؤْيَةُ الْإِقْبَالِ وَالتَّقَبُّلِ كَقَوْلِهِ: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: ٤٨] .

وَالْقِيَامُ: الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، غَلَبَ هَذَا الِاسْمُ عَلَيْهِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ، وَالتَّقَلُّبُ فِي السَّاجِدِينَ هُوَ صَلَاتُهُ فِي جَمَاعَاتِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَسْجِدِهِ. وَهَذَا يَجْمَعُ مَعْنَى الْعِنَايَةِ بِالْمُسْلِمِينَ تَبَعًا لِلْعِنَايَةِ بِرَسُولِهِمْ، فَهَذَا مِنْ بَرَكَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ جَمَعَهَا هَذَا التَّرْكِيبُ الْعَجِيبُ الْإِيجَازِ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ. قَالَ مُقَاتِلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ: هَلْ تَجِدُ الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْضُرُنِي فَتَلَا مُقَاتِلٌ هَذِهِ الْآيَةَ.

وَمَوْقِعُ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ

[الشُّعَرَاء: ٢١٦] ، وَلِلْأَمْرِ بِ تَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، فَصِفَةُ السَّمِيعُ مُنَاسِبَةٌ لِلْقَوْلِ، وَصِفَةُ الْعَلِيمُ مُنَاسِبَةٌ لِلتَّوَكُّلِ، أَيْ إِنَّهُ يَسْمَعُ قَوْلَكَ وَيَعْلَمُ عَزْمَكَ.

وَضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ للتقوية.