للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الزَّمَنِ الْقَصِيرِ بِالْمَكَانِ الْقَرِيبِ وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ قَالَ تَعَالَى: وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود: ٨٩] .

وَالْفَاءُ فِي فَقالَ عَاطِفَةٌ عَلَى «مَكَثَ» وَجُعِلَ الْقَوْلُ عَقِيبَ الْمُكْثِ لِأَنَّهُ لَمَّا حَضَرَ صَدَرَ الْقَوْلُ مِنْ جِهَتِهِ فَالتَّعْقِيبُ حَقِيقِيٌّ.

وَالْقَوْلُ الْمُسْنَدُ إِلَى الْهُدْهُدِ إِنْ حُمِلَ عَلَى حَقِيقَةِ الْقَوْلِ وَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ النَّاسُ، فَقَوْلُ الْهُدْهُدِ هَذَا لَيْسَ مِنْ دَلَالَةِ مَنْطِقِ الطَّيْرِ الَّذِي عَلِمَهُ سُلَيْمَانُ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَنْطِقُ الدَّالُّ عَلَى مَا فِي نُفُوسِ الطَّيْرِ مِنَ الْمُدْرَكَاتِ وَهِيَ مَحْدُودَةٌ كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النَّمْل: ١٦] . وَلَيْسَ لِلْهُدْهُدِ قِبَلٌ بِإِدْرَاكِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ

الْقَوْلُ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ وَلَا بِاسْتِفَادَةِ الْأَحْوَالِ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْأَقْوَامِ وَالْبُلْدَانِ حَتَّى تَخْطُرَ فِي نَفْسِهِ وَحَتَّى يُعَبِّرَ عَنْهَا بِمَنْطِقِهِ الَّذِي عُلِّمَ سُلَيْمَانُ دَلَالَتَهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. فَهَذَا وَحْيٌ لِسُلَيْمَانَ أَجْرَاهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ الْهُدْهُدِ.

وَأَمَّا قَوْلُ سُلَيْمَانَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ [النَّمْل: ٢٧] فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُلَيْمَانُ خَشِيَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْكَلَامُ الَّذِي سَمِعَهُ مِنْ تِلْقَاءِ الْهُدْهُدِ كَلَامًا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ مِنْ جَانِبِ الْهُدْهُدِ لِيُضَلِّلَ سُلَيْمَانَ وَيَفْتِنَهُ بِالْبَحْثِ عَنْ مَمْلَكَةٍ مَوْهُومَةٍ لِيَسْخَرَ بِهِ كَمَا يَسْخَرُ بِالْمُتَثَائِبِ، فَعَزَمَ سُلَيْمَانُ عَلَى اسْتِثْبَاتِ الْخَبَرِ بِالْبَحْثِ الَّذِي لَا يَتْرُكُ رِيبَةً فِي صِحَّتِهِ خِزْيًا لِلشَّيْطَانِ.

وَلْنَشْتَغِلِ الْآنَ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامُ فَابْتِدَاؤُهُ بِ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ تَنْبِيهٌ لِسُلَيْمَانَ بِأَنَّ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ مَمَالِكَ وَمُلُوكًا تُدَانِي مُلْكَهُ أَوْ تَفُوقُهُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِ الْمُلْكِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَثَلًا لَهُ، كَمَا جَعَلَ عِلْمَ الْخَضِرِ مَثَلًا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِانْتِهَاءِ الْأَمْرِ إِلَى مَا بَلَغَهُ هُوَ. وَفِيهِ اسْتِدْعَاءٌ لِإِقْبَالِهِ عَلَى مَا سَيُلْقَى إِلَيْهِ بِشَرَاشِرِهِ لِأَهَمِّيَّةِ هَذَا الْمَطْلَعِ فِي الْكَلَامِ، فَإِنَّ مَعْرِفَةَ أَحْوَالِ الْمَمَالِكِ وَالْأُمَمِ مِنْ أَهَمِّ مَا يُعْنَى بِهِ مُلُوكُ الصَّلَاحِ لِيَكُونُوا عَلَى اسْتِعْدَادٍ بِمَا يُفَاجِئُهُمْ مِنْ تِلْقَائِهَا، وَلِتَكُونَ مِنْ دَوَاعِي الِازْدِيَادِ مِنَ الْعَمَلِ النَّافِعِ لِلْمَمْلَكَةِ بِالِاقْتِدَاءِ بِالنَّافِعِ مِنْ أَحْوَالِ غَيْرِهَا وَالِانْقِبَاضِ عَمَّا فِي أَحْوَالِ الْمَمْلَكَةِ مِنَ الْخَلَلِ بِمُشَاهَدَةِ آثَارِ مِثْلِهِ فِي غَيْرِهَا.