تَكُونَ عَارِفَةً بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ مَكْتُوبًا بِالْعَرَبِيَّةِ الْقَحْطَانِيَّةِ، فَإِنَّ عَظَمَةَ مُلْكِ سُلَيْمَانَ لَا تَخْلُو مِنْ كُتَّابٍ عَارِفِينَ بِلُغَاتِ الْأُمَمِ الْمُجَاوِرَةِ لِمَمْلَكَتِهِ، وَكَوْنُهُ بَلُغَتِهِ أَظْهَرُ وَأَنْسَبُ بِشِعَارِ الْمُلُوكِ، وَقَدْ كَتَبَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُلُوكِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ.
أَمَّا الْكَلَامُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ تَرْجَمَةُ الْكِتَابِ إِلَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى بِتَضْمِينِ دَقَائِقِهِ وَخُصُوصِيَّاتِ اللُّغَةِ الَّتِي أُنْشِئَ بِهَا.
وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمَلِكَةِ ابْتَدَأَتْ بِهِ مُخَاطَبَةَ أَهْلِ مَشُورَتِهَا لِإِيقَاظِ أَفْهَامِهِمْ إِلَى التَّدَبُّرِ فِي مَغْزَاهُ لِأَنَّ اللَّائِقَ بِسُلَيْمَانَ أَنْ لَا يُقَدِّمَ فِي كِتَابِهِ شَيْئًا قَبْلَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مَعْرِفَةَ اسْمِ سُلَيْمَانَ تُؤْخَذُ مِنْ خَتْمِهِ وَهُوَ خَارِجُ الْكِتَابِ فَلِذَلِكَ ابْتَدَأَتْ بِهِ أَيْضًا.
وَالتَّأْكِيدُ بِ (إِنَّ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ يُتَرْجِمُ عَمَّا فِي كَلَامِهِمَا بِاللُّغَةِ السَّبَائِيَّةِ مِنْ عِبَارَاتٍ دَالَّةٍ عَلَى اهْتِمَامِهَا بِمُرْسِلِ الْكِتَابِ وَبِمَا تَضَمَّنَهُ الْكِتَابُ اهْتِمَامًا يُؤَدَّى مِثْلُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الِاهْتِمَامِ فِي مَقَامٍ لَا شَكَّ فِيهِ.
وَتَكْرِيرُ حَرْفِ (إِنَّ) بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ إِيمَاءٌ إِلَى اخْتِلَافِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ ذَات الْكتاب، وَالْمُرَادَ بِالْمَعْطُوفِ مَعْنَاهُ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ، كَمَا تَقُولُ: إِنَّ فَلَانًا لَحَسَنُ الطَّلْعَةِ وَإِنَّهُ لَزَكِيٌّ. وَهَذَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِ إِعَادَةِ الْعَامِلِ بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ مَعَ إِغْنَاءِ حَرْفِ الْعَطْفِ عَنْ ذِكْرِ الْعَامِلِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
[النِّسَاء: ٥٩] ، أُعِيدَ أَطِيعُوا لِاخْتِلَافِ مَعْنَى الطَّاعَتَيْنِ، لِأَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ تَنْصَرِفُ إِلَى الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ، وَطَاعَةَ الرَّسُولِ مُرَادٌ بِهَا طَاعَتُهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَى الرَّسُولِ أُولُو الْأَمْرِ مِنَ الْأُمَّةِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ حِكَايَةٌ لِمَقَالِهَا، وَعَرَفَتْ هِيَ ذَلِكَ مِنْ عُنْوَانِ الْكِتَابِ بِأَعْلَاهُ أَوْ بِظَاهِرِهِ عَلَى حَسَبِ طَرِيقَةِ الرَّسَائِلِ السُّلْطَانِيَّةِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، مِثْلُ افْتِتَاحِ كُتُبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُلُوكِ بِجُمْلَةِ: «مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ» .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute