تَضَمَّنَهُ اخْتِصَامُهُمْ مِنْ مُحَاوَلَتِهِمْ إِفْحَامَهُ بِطَلَبِ نُزُولِ الْعَذَابِ. فَمَقُولُ صَالِحٍ هَذَا لَيْسَ هُوَ ابْتِدَاءَ دَعْوَتِهِ فَإِنَّهُ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [النَّمْل: ٤٥] وَلَكِنَّهُ جَوَابٌ عَمَّا تَضَمَّنَهُ اخْتِصَامُهُمْ مَعَهُ، وَلِذَلِكَ جَاءَتْ جُمْلَةُ: قالَ يَا قَوْمِ مَفْصُولَةً جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ لِأَنَّهَا حِكَايَةُ جَوَابٍ عَمَّا تَضَمَّنَهُ اخْتِصَامُهُمْ.
وَاقْتَصَرَ عَلَى مُرَاجَعَةِ صَالِحٍ قَوْمَهُ فِي شَأْنِ غُرُورِهِمْ بِظَنِّهِمْ أَنَّ تَأَخُّرَ الْعَذَابِ أَمَارَةً عَلَى كَذِبِ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِهِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: فَأْتِنَا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الْأَعْرَاف:
٧٠] كَمَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ لِأَنَّ الْغَرَضَ هُنَا مَوْعِظَةُ قُرَيْشٍ فِي قَوْلِهِمْ: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: ٣٢] بِحَالِ ثَمُودَ الْمُسَاوِي لِحَالِهِمْ
لِيَعْلَمُوا أَنَّ عَاقِبَةَ ذَلِكَ مُمَاثِلَةٌ لِعَاقِبَةِ ثَمُودَ لِتَمَاثُلِ الْحَالَيْنِ قَالَ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [العنكبوت:
٥٣] .
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ إِنْكَارٌ لِأَخْذِهِمْ بِجَانِبِ الْعَذَابِ دُونَ جَانب الرَّحْمَة.
فالسيئة: صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ بِالْحَالَةِ السَّيِّئَةِ، وَكَذَلِكَ الْحَسَنَةِ.
فَيَجُوزُ أَنْ يكون المُرَاد بِالسَّيِّئَةِ الْحَالَةُ السَّيِّئَةُ فِي مُعَامَلَتِهِمْ إِيَّاهُ بِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ.
وَالْمُرَادُ بِالْحَسَنَةِ ضِدَّ ذَلِكَ، أَيْ تَصْدِيقُهُمْ لِمَا جَاءَ بِهِ، فَالِاسْتِعْجَالُ: الْمُبَادَرَةُ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ. وَمَفْعُولُ تَسْتَعْجِلُونَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: تَسْتَعْجِلُونَنِي مُتَلَبِّسِينَ بِسَيِّئَةِ التَّكْذِيبِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَخْذَهُمْ بِطَرَفِ التَّكْذِيبِ إِذْ أَعْرَضُوا عَنِ التَّدَبُّرِ فِي دَلَائِلِ صِدْقِهِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُتَرَدِّدِينَ فِي أَمْرِي فَافْرِضُوا صِدْقِي ثُمَّ انْظُرُوا. وَهَذَا اسْتِنْزَالٌ بِهِمْ إِلَى النَّظَرِ بَدَلًا عَنِ الْإِعْرَاضِ، وَلِذَلِكَ جَمَعَ فِي كَلَامِهِ بَيْنَ السَّيِّئَةِ وَالْحَسَنَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يكون المُرَاد بِالسَّيِّئَةِ الْحَالَةُ السَّيِّئَةُ الَّتِي يَتَرَقَّبُونَ حُلُولَهَا، وَهِيَ مَا سَأَلُوا مِنْ تَعْجِيلِ الْعَذَابِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَبِ الْحَسَنَةِ ضِدَّ ذَلِكَ أَيْ حَالَةُ سَلَامَتِهِمْ مِنْ حُلُول الْعَذَاب فالسيئة مَفْعُولُ تَسْتَعْجِلُونَ وَالْبَاءُ مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ اللُّصُوقِ مِثْلُ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: ٦] .