للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْمَشُوبِ بِالِامْتِنَانِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ الْمُجَرَّدِ بِدَلَائِلِ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ بِأَنْ خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةَ وَبِتَدْبِيرِهِ نِظَامَهَا حَتَّى لَا يَطْغَى بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَيَخْتَلَّ نِظَامُ الْجَمِيعِ.

وَلِأَجْلِ كَوْنِ الْغَرَضِ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ إِثْبَاتَ عِظَمِ الْقُدْرَةِ وَحِكْمَةِ الصنع لم يَجِيء خِلَالَهُ بِخِطَابٍ لِلْمُشْرِكِينَ كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاء [النَّمْل: ٦٠] الْآيَةَ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الصُّنْعُ الْعَجِيبُ لَا يَخْلُو مَنْ لُطْفٍ بِالْمَخْلُوقَاتِ أَرَادَهُ خَالِقُهَا، وَلَكِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ مِنْ سَوْقِ الدَّلِيلِ هُنَا.

وَالْقَرَارُ: مَصْدَرُ قَرَّ، إِذَا ثَبَتَ وَسَكَنَ. وَوَصَفَ الأَرْض بِهِ للْمُبَالَغَة، أَيْ ذَاتُ قَرَارٍ.

وَالْمَعْنَى جَعَلَ الْأَرْضَ ثَابِتَةً قَارَّةً غَيْرَ مُضْطَرِبَةٍ. وَهَذَا تَدْبِيرٌ عَجِيبٌ وَلَا يُدْرَكُ تَمَامُ هَذَا الصُّنْعِ الْعَجِيبِ إِلَّا عِنْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ سَابِحَةٌ فِي الْهَوَاءِ مُتَحَرِّكَةٌ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ قَارَّةٌ فِيمَا يَبْدُو لِسُكَّانِهَا فَهَذَا تَدْبِيرٌ أَعْجَبُ، وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ رَحْمَةٌ وَنِعْمَةٌ. وَلَوْلَا قَرَارُهَا لَكَانَ النَّاسُ عَلَيْهَا مُتَزَلْزِلِينَ مُضْطَرِبِينَ وَلَكَانَتْ أَشْغَالُهُمْ مُعَنِّتَةً لَهُمْ.

وَمَعَ جَعْلِهَا قَرَارًا شَقَّ فِيهَا الْأَنْهَارَ فَجَعَلَهَا خِلَالَهَا. وَخِلَالُ الشَّيْءِ: مُنْفَرَجُ مَا بَيْنَ أَجْزَائِهِ. وَالْأَنْهَارُ تَشُقُّ الْأَرْضَ فِي أخاديد فتجري خلال الْأَرْضُ.

وَالرَّوَاسِي: الْجِبَالُ، جَمْعُ رَاسٍ وَهُوَ الثَّابِتُ. وَاللَّامُ فِي لَها لَامُ الْعِلَّةِ، أَيِ الرَّوَاسِي لِأَجْلِهَا أَيْ لِفَائِدَتِهَا، فَإِنَّ فِي تَكْوِينِ الْجِبَالِ حِكْمَة لدفع الملاسة عَنِ الْأَرْضِ لِيَكُونَ سَيْرُهَا فِي الْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ مُعَدَّلًا غَيْرَ شَدِيدِ السُّرْعَةِ وَبِذَلِكَ دَوَامُ سَيْرِهَا.

وَجَعَلَ الْحَاجِزَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ مِنْ بَدِيعِ الْحِكْمَةِ، وَهُوَ حَاجِزٌ مَعْنَوِيٌّ حَاصِلٌ مَنْ دَفْعِ كِلَا الْمَاءَيْنِ: أَحَدِهِمَا الْآخَرَ عَنِ الِاخْتِلَاطِ بِهِ، بِسَبَبِ تَفَاوُتِ الثِّقْلِ النِّسْبِيِّ لِاخْتِلَافِ الْأَجْزَاءِ الْمُرَكَّبِ مِنْهَا الْمَاءُ الْمِلْحُ وَالْمَاء العذب. فالحاحز حَاجِزٌ مِنْ طَبَعِهِمَا وَلَيْسَ جِسْمًا آخَرَ فَاصِلًا بَيْنَهُمَا، وَتقدم فِي سُورَة النَّحْلِ.

وَهَذَا الْجَعْلُ كِنَايَةٌ عَنْ خَلْقِ الْبَحْرَيْنِ أَيْضًا لِأَنَّ الْحَجْزَ بَيْنَهُمَا يَقْتَضِي خَلْقَهُمَا وَخَلْقَ الْمُلُوحَةِ وَالْعُذُوبَةِ فِيهِمَا.

ثُمَّ ذَيَّلَ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ وَبِالِاسْتِدْرَاكِ بِجُمْلَةٍ مُمَاثِلَةٍ لِمَا ذُيِّلَ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ