فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ وَهُوَ وَاقِعٌ مِنْ كَلَامٍ مَنْفِيٍّ. فَحَقَّ الْمُسْتَثْنَى أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي اللُّغَةِ الْفُصْحَى فَلِذَلِكَ جَاءَ اسْمُ الْجَلَالَةِ مَرْفُوعًا وَلَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا لَكَانَتِ اللُّغَةُ الْفُصْحَى تَنْصِبُ الْمُسْتَثْنَى.
وَبَعْدُ فَإِنَّ دَلَائِلَ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الْحُلُولِ فِي الْمَكَانِ وَعَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ مُتَوَافِرَةٌ فَلِذَلِكَ يَجْرِي اسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى سَنَنِ الِاسْتِعْمَالِ الْفَصِيحِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَتَوَهَّمُ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعًا وُقُوفًا عِنْدَ ظَاهِرِ صِلَةِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لِأَنَّ اللَّهَ يُنَزَّهُ عَنِ الْحُلُولِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
وَأَمَّا مَنْ يَتَفَضَّلُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِأَنْ يُظْهِرَهُ عَلَى الْغَيْبِ فَذَلِكَ دَاخَلٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى
عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الْجِنّ: ٢٦، ٢٧] . فَأَضَافَ (غَيْبِ) إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ.
وَأَرْدَفَ هَذَا الْخَبَرَ بِإِدْمَاجِ انْتِفَاءِ عِلْمِ هَؤُلَاءِ الزَّاعِمِينَ عِلْمَ الْغَيْبِ أَنَّهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِوَقْتِ بَعْثِهِمْ بَلْ جَحَدُوا وُقُوعَهُ إِثَارَةً لِلتَّذْكِيرِ بِالْبَعْثِ لِشِدَّةِ عِنَايَةِ الْقُرْآنِ بِإِثْبَاتِهِ وَتَسْفِيهِ الَّذِينَ أَنْكَرُوهُ. فَذَلِكَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ، أَيْ إِنَّ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ عِلْمَ الْغَيْبِ مَا يَشْعُرُونَ بِوَقْتِ بَعْثِهِمْ.
وأَيَّانَ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنِ الزَّمَانِ وَهُوَ مُعَلَّقُ فِعْلِ يَشْعُرُونَ عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولَيْهِ. وَهَذَا تَوَرُّكٌ وَتَعْيِيرٌ لِلْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ بَلْهَ شُعُورُهُمْ بِوَقْتِهِ.
وبَلِ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِ مَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ وَهُوَ ارْتِقَاءٌ إِلَى مَا هُوَ أَغْرَبُ وَأَشَدُّ ارْتِقَاءً مِنْ تَعْيِيرِهِمْ بِعَدَمِ شُعُورِهِمْ بِوَقْتِ بَعْثِهِمْ إِلَى وَصْفِ عِلْمِهِمْ بِالْآخِرَةِ الَّتِي الْبَعْثُ مِنْ أَوَّلِ أَحْوَالِهَا وَهُوَ الْوَاسِطَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدُّنْيَا بِأَنَّهُ عِلْمٌ مُتَدَارَكٌ أَوْ مُدْرَكٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ادَّارَكَ بِهَمْزِ وَصْلٍ فِي أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ (تَدَارَكَ) فَأُدْغِمَتْ تَاءُ التَّفَاعُلِ فِي الدَّال لقرب مخرجيها بَعْدَ أَنْ سَكَنَتْ وَاجْتُلِبَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute