وَالنَّفْخُ فِي الصُّورِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧٣] وَهُوَ تَقْرِيبٌ لِكَيْفِيَّةِ صُدُورِ الْأَمْرِ التَّكْوِينِيِّ لِإِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ وَهُوَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: ٦٨] ، وَذَلِكَ هُوَ يَوْمُ الْحِسَابِ. وَأَمَّا النَّفْخَةُ الْأُولَى فَهِيَ نَفْخَةٌ يَعْنِي بِهَا الْإِحْيَاءَ، أَيْ نَفْخَ الْأَرْوَاحِ فِي أَجْسَامِهَا وَهِيَ سَاعَةُ انْقِضَاءِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَهُمْ يُصْعَقُونَ، وَلِهَذَا فُرِّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، أَيْ عَقِبَهُ حُصُولُ الْفَزَعِ وَهُوَ الْخَوْفُ مِنْ عَاقِبَةِ الْحِسَابِ وَمُشَاهَدَةِ مُعَدَّاتِ الْعَذَابِ، فَكُلُّ أَحَدٍ يَخْشَى أَنْ يَكُونَ مُعَذَّبًا، فَالْفَزَعُ حَاصِلٌ مِمَّا بَعْدَ النَّفْخَةِ وَلَيْسَ هُوَ فَزَعًا مِنَ النَّفْخَةِ لِأَنَّ النَّاسَ حِينَ النَّفْخَةِ أَمْوَاتٌ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ مُجْمَلٌ يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدُ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النَّمْل: ٨٩] وَقَوْلُهُ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى إِلَى قَوْلِهِ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الْأَنْبِيَاء: ١٠١- ١٠٣] وَذَلِكَ بِأَنْ يُبَادِرَهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِالْبِشَارَةِ. قَالَ تَعَالَى وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٣] وَقَالَ هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
[يُونُس: ٦٤] .
وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ فَفَزِعَ مَعَ أَنَّ النفخ مُسْتَقْبل، للإشعار بِتَحَقُّقِ الْفَزَعِ وَأَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ كَقَوْلِهِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: ١] لِأَنَّ الْمُضِيَّ يَسْتَلْزِمُ التَّحَقُّقَ فَصِيغَةُ الْمَاضِي كِنَايَةٌ عَنِ التَّحَقُّقِ، وَقَرِينَةُ الِاسْتِقْبَالِ ظَاهِرَةٌ مِنَ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ يُنْفَخُ.
وَالدَّاخِرُونَ: الصَّاغِرُونَ. أَيِ الْأَذِلَّاءُ، يُقَالُ: دَخَرَ بِوَزْنِ مَنَعَ وَفَرِحَ وَالْمَصْدَرُ الدَّخَرُ بِالتَّحْرِيكِ وَالدُّخُورُ.
وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ الظَّاهِرُ فِي آتَوْهُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَالْإِتْيَانُ إِلَى اللَّهِ الْإِحْضَارُ فِي مَكَانِ قَضَائِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ على تَقْدِير: ءاتون فِيهِ وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ (كُلٌّ) الْمُعَوَّضُ عَنْهُ التَّنْوِينُ، تَقْدِيرُهُ: مَنْ فَزِعَ مِمَّن فِي السَّمَوَات وَالْأَرْضِ آتُوهُ دَاخِرِينَ. وَأَمَّا مَنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ بِأَنَّهُ شَاءَ أَنْ لَا يَفْزَعُوا فَهُمْ لَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ آتَوْهُ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ أَتَى. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute