اسْتَقَامَ مَحْمَلُ إِحْدَاهَا إِلَّا وَنَاكَدَهُ مَحْمَلُ أُخْرَى. وَهِيَ أَلْفَاظُ: جَنَاحٍ، وَرَهَبٍ، وَحَرْفِ مِنَ. فَسَلَكُوا طَرَائِقَ لَا تُوَصِّلُ إِلَى مُسْتَقَرٍّ. وَقَدِ اسْتُوعِبَتْ فِي كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ وَالزَّمَخْشَرِيِّ. قَالَ بَعْضُهُمْ:
إِنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا وَإِنَّ قَوْلَهُ مِنَ الرَّهْبِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَلَّى مُدْبِراً عَلَى أَنَّ مِنَ حَرْفٌ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ أَدْبَرَ لِسَبَبِ الْخَوْفِ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي الِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ إِذْ لَا دَاعِيَ لِتَقْدِيمِ وَتَأْخِيرِ مَا زَعَمُوهُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ طُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ فِعْلِ وَلَّى وَبَيْنَ مِنَ الرَّهْبِ.
وَقِيلَ الْجَنَاحُ: الْيَدُ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا عَنِ الْيَدِ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِمَّا إِلَى تَكْرِيرِ مُفَادِ قَوْلِهِ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ وَحَرْفُ الْعَطْفِ مَانِعٌ مِنِ احْتِمَالِ التَّأْكِيدِ. وَادِّعَاءُ أَنْ يَكُونَ التَّكْرِيرُ لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ مِنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» بَعِيدٌ، أَوْ يُؤَوَّلُ بِأَنْ وَضْعَ الْيَدِ عَلَى الصَّدْرِ يُذْهِبُ الْخَوْفَ كَمَا عُزِيَ إِلَى الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِلَى مُجَاهِدٍ وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ. وَهَذَا مَيْلٌ إِلَى أَنَّ الْجَنَاحَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ مُرَادٌ بِهِ يَدُ الْإِنْسَانِ. وَلِلْجَنَاحِ حَقِيقَةٌ وَمَجَازَاتٌ بَيْنَ مُرْسَلٍ وَاسْتِعَارَةٍ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ فِي تَصَارِيفِ مَعَانِيهِ وَلَيْسَ وُرُودُهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِمَعْنًى بِقَاضٍ بِحَمْلِهِ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى حَيْثُمَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ.
وَلِذَا فَالْوَجْهُ أَنَّ قَوْلَهُ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ تَمْثِيلٌ بِحَالِ الطَّائِرِ إِذا سكن عَن الطيران أَو عَن الدفاع جعل كِنَايَة عَن سُكُون اضْطِرَاب الْخَوْف. وَيكون من هُنَا للبدلية، أَي اسكن سُكُون الطَّائِر بَدَلًا مِنْ أَنْ تَطِيرَ خَوْفًا. وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ قِيلَ: وَأَصْلُهُ لِأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ. والرَّهْبِ مَعْرُوفٌ أَنَّهُ الْخَوْفُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً [الْأَنْبِيَاء: ٩٠] .
وَالْمَعْنَى: انْكَفِفْ عَنِ التَّخَوُّفِ مِنْ أَمْرِ الرِّسَالَةِ. وَفِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [الْقَصَص: ٣٣] فَقَوْلُهُ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ [الْقَصَص: ٣٥] .
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الرَّهْبِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْهَاءِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَهِيَ لُغَاتٌ فَصِيحَةٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute