تَعْبُدُونَ إِلَّا صُوَرًا لَا إِدْرَاكَ لَهَا، فَيَكُونُ قَصْرَ قَلْبٍ لِإِبْطَالِ اعْتِقَادِهِمْ إِلَهِيَّةَ تِلْكَ الصُّوَرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى قالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ [الصافات: ٩٥] .
وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ يَتَخَرَّجُ مَعْنَى قَوْلِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنَّ دُونِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى (غَيْرِ) فَتَكُونُ مِنْ زَائِدَةً، وَالْمَعْنَى: تَعْبُدُونَ أَوْثَانًا غَيْرَ اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ دُونِ اسْمًا لِلْمَكَانِ الْمُبَاعِدِ فَهِيَ إِذَنْ مُسْتَعَارَةٌ لِمَعْنَى الْمُخَالَفَةِ فَتَكُونُ مِنْ ابْتِدَائِيَّةً، وَالْمَعْنَى: تَعْبُدُونَ أَوْثَانًا مَوْصُوفَةً بِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِصِفَاتِ اللَّهِ.
وَالْأَوْثَانُ: جَمْعُ وَثَنٍ بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ صُورَةٌ مِنْ حَجَرٍ أَوْ خَشَبٍ مُجَسَّمَةٍ عَلَى صُورَةِ إِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ. وَالْوَثَنُ أَخَصُّ مِنَ الصَّنَمِ لِأَنَّ الصَّنَمَ يُطْلَقُ عَلَى حِجَارَةٍ غَيْرِ مُصَوَّرَةٍ مَثْلَ أَكْثَرِ أَصْنَامِ الْعَرَبِ كَصَنَمِ ذِي الْخَلَصَةِ لَخَثْعَمَ، وَكَانَتْ أَصْنَامُ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ صُوَرًا قَالَ تَعَالَى قالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ [الصافات: ٩٥] . وَتَقَدَّمَ وَصْفُ أَصْنَامِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ.
وتَخْلُقُونَ مُضَارِعُ خَلَقَ الْخَبَرِ، أَيِ اخْتَلَقَهُ، أَيْ كَذَبَهُ وَوَضَعَهُ، أَيْ وَتَضَعُونَ لَهَا
أَخْبَارًا وَمَنَاقِبَ وَأَعْمَالًا مَكْذُوبَةً مَوْهُومَةً.
وَالْإِفْكُ: الْكَذِبُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ فِي سُورَةِ النُّورِ [١١] .
وَجُمْلَةُ إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً إِنْ كَانَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ يَعْتَرِفُونَ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَلَكِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ شُرَكَاءَ فِي الْعِبَادَةِ لِيَكُونُوا لَهُمْ شُفَعَاءَ كَحَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ تَكُونُ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلًا لِجُمْلَةِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ أَيْ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ شُكْرٌ عَلَى نِعَمِهِ، وَإِنْ كَانَ قَوْمُهُ لَا يُثْبِتُونَ إِلَهِيَّةً لِغَيْرِ أَصْنَامِهِمْ كَانَتْ جُمْلَةُ إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مُسْتَأْنَفَةً ابْتِدَائِيَّةً إِبْطَالًا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ آلِهَتَهُمْ تَرْزُقُهُمْ، وَيُرَجِّحُ هَذَا الِاحْتِمَالَ التَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ التَّرَدُّدُ فِي حَالِ إِشْرَاكِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَتَنْكِيرُ رِزْقاً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ نَفْيِ قُدْرَةِ أَصْنَامِهِمْ عَلَى كُلِّ رِزْقٍ وَلَوْ قَلِيلًا. وَتَفْرِيعُ الْأَمْرِ بِابْتِغَاءِ الرِّزْقِ مِنَ اللَّهِ إِبْطَالٌ لِظَنِّهِمُ الرِّزْقَ مِنْ أَصْنَامِهِمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute