للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يُقَالُ:

ضَيْعَةٌ عَامِرَةٌ، أَيْ: مَعْمُورَةٌ بِمَا تَعْمُرُ بِهِ الضِّيَاعُ، وَيُقَالُ فِي ضِدِّهِ: ضَيْعَةٌ غَامِرَةٌ. وَلِكَوْنِ قُرَيْشٍ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ إِثَارَةٌ فِي الْأَرْضِ بِكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ إِذْ كَانُوا بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ لَمْ يُقَلْ فِي هَذَا الْجَانِبِ: أَكْثَرَ مِمَّا أَثَارُوهَا.

وَضَمِيرَا جَمْعِ الْمُذَكَّرِ فِي قَوْلِهِ: وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها رَاجِعٌ أَوَّلُهُمَا إِلَى مَا رَجَعَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ أَثارُوا وَثَانِيهِمَا إِلَى مَا رَجَعَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ. وَيُعْرَفُ تَوْزِيعُ الضَّمِيرَيْنِ بِالْقَرِينَةِ مِثْلُ تَوْزِيعِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فِي سُورَةِ [الْقَصَصِ: ١٥] كَالضَّمِيرَيْنِ فِي قَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ يَذْكُرُ قِتَالَ هَوَازِنَ يَوْمَ حُنَيْنٍ:

عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ ... بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَّعُوا

وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٥٨] ، أَيْ عَمَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمُ الْأَرْضَ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرَهَا هَؤُلَاءِ، فَإِنَّ لِقُرَيْشٍ عِمَارَةً فِي الْأَرْضِ مِنْ غَرْسٍ قَلِيلٍ وَبِنَاءٍ وَتَفْجِيرٍ وَلَكِنَّهُ يَتَضَاءَلُ أَمَامَ عِمَارَةِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ مِنْ عَادٍ وَثَمُودَ.

وَتَفْرِيعُ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ عَلَى قَوْلِهِ وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ إِيجَازُ حَذْفٍ بَدِيعٌ، لِأَنَّ مَجِيءَ الرُّسُلِ بِالْبَيِّنَاتِ يَقْتَضِي تَصْدِيقًا وَتَكْذِيبًا فَلَمَّا فَرَّعَ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ عَلِمَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَأَنَّ اللَّهَ جَازَاهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُ بِأَنْ عَاقَبَهُمْ عِقَابًا لَوْ كَانَ لِغَيْرِ

جُرْمٍ لَشَابَهَ الظُّلْمَ، فَجُعِلَ مِنْ مَجْمُوعِ نَفْيِ ظُلْمِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَمِنْ إِثْبَاتِ ظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ مَعْرِفَةُ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَعَانَدُوهُمْ وَحَلَّ بِهِمْ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ مُشَاهَدَةِ دِيَارِهِمْ وَتَنَاقُلِ أخبارهم.

والاستدراك ناشىء عَلَى مَا يَقْتَضِيهُ نَفْيُ ظُلْمِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ عُومِلُوا مُعَامَلَةً سَيِّئَةً لَوْ لَمْ يَسْتَحِقُّوهَا لَكَانَتْ مُعَامَلَةَ ظُلْمٍ. وَعُبِّرَ عَنْ ظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِ ظُلْمِهِمْ وَتَكَرُّرِهِ وَأَنَّ اللَّهَ أَمْهَلَهُمْ فَلَمْ يُقْلِعُوا حَتَّى أَخَذَهُمْ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْعَاقِبَةُ، وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ كانُوا.