للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَلَا شَكَّ أَنَّ اللُّغَةَ كَانَتْ وَاحِدَةً لِلْبَشَرِ حِينَ كَانُوا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَمَا اخْتَلَفَتِ اللُّغَاتُ إِلَّا بِانْتِشَارِ قَبَائِلِ الْبَشَرِ فِي الْمَوَاطِنِ الْمُتَبَاعِدَةِ، وَتَطَرَّقَ التَّغَيُّرُ إِلَى لُغَاتِهِمْ تَطَرُّقًا تَدْرِيجِيًّا عَلَى أَنَّ تَوَسُّعَ اللُّغَاتِ بِتَوَسُّعِ الْحَاجَةِ إِلَى التَّعْبِيرِ عَنْ أَشْيَاءَ لَمْ يَكُنْ لِلتَّعْبِيرِ عَنْهَا حَاجَةٌ قَدْ أَوْجَبَ اخْتِلَافًا فِي وَضْعِ الْأَسْمَاءِ لَهَا فَاخْتَلَفَتِ اللُّغَاتُ بِذَلِكَ فِي جَوْهَرِهَا كَمَا اخْتَلَفَتْ فِيمَا كَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَهَا بِاخْتِلَافِ لَهَجَاتِ النُّطْقِ، وَاخْتِلَافِ التَّصَرُّفِ، فَكَانَ لِاخْتِلَافِ الْأَلْسِنَةِ مُوجِبَانِ. فَمَحَلُّ الْعِبْرَةِ هُوَ اخْتِلَاف اللُّغَات مَعَ اتِّحَادِ

أَصْلِ النَّوْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [الرَّعْد:

٤] وَلِمَا فِي ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ مِنَ الْأَسْرَارِ الْمُقْتَضِيَةِ إِيَّاهُ. وَوَقَعَ فِي الْإِصْحَاحِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ «سِفْرِ التَّكْوِينِ» مَا يُوهِمُ ظَاهِرُهُ أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَلْسُنِ حَصَلَ دُفْعَةً وَاحِدَةً بَعْدَ الطُّوفَانِ فِي أَرْضِ بَابِلَ وَأَنَّ الْبَشَرَ تَفَرَّقُوا بَعْدَ ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْعِبَارَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَأَنَّ التَّفَرُّقَ وَقَعَ قَبْلَ تَبَلْبُلِ الْأَلْسُنِ. وَقَدْ عُلِّلَ فِي ذَلِكَ «الْإِصْحَاحِ» بِمَا يُنَزِّهُ اللَّهُ عَنْ مَدْلُولِهِ.

وَقِيلَ: أَرَادَ بِاخْتِلَافِ الْأَلْسِنَةِ اخْتِلَافَ الْأَصْوَاتِ بِحَيْثُ تَتَمَايَزُ أَصْوَاتُ النَّاسِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِلُغَةٍ وَاحِدَةٍ فَنَعْرِفُ صَاحِبَ الصَّوْتِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَرْئِيٍّ. وَأَمَّا اخْتِلَافُ أَلْوَانِ الْبَشَرِ فَهُوَ آيَةٌ أَيْضًا لِأَنَّ الْبَشَرَ مُنْحَدِرٌ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ آدَمُ، وَلَهُ لَوْنٌ وَاحِدٌ لَا مَحَالَةَ، وَلَعَلَّهُ الْبَيَاضُ الْمَشُوبُ بِحُمْرَةٍ، فَلَمَّا تَعَدَّدَ نَسْلُهُ جَاءَتِ الْأَلْوَانُ الْمُخْتَلِفَةُ فِي بَشَرَاتِهِمْ وَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ مَعْلُولٌ لِعِدَّةِ عِلَلٍ أَهَمُّهَا الْمَوَاطِنُ الْمُخْتَلِفَةُ بِالْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ، وَمِنْهَا التَّوَالُدُ مِنْ أَبَوَيْنِ مُخْتَلِفَيِ اللَّوْنِ مِثْلَ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ أُمٍّ سَوْدَاءَ وَأَبٍ أَبْيَضَ، وَمِنْهَا الْعِلَلُ وَالْأَمْرَاضُ الَّتِي تُؤَثِّرُ تَلْوِينًا فِي الْجِلْدِ، وَمِنْهَا اخْتِلَافُ الْأَغْذِيَةِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ اخْتِلَافُ أَلْوَانِ الْبَشَرِ دَلِيلًا عَلَى اخْتِلَافِ النَّوْعِ بل هُوَ نواع وَاحِدٌ، فَلِلْبَشَرِ أَلْوَانٌ كَثِيرَةٌ أَصْلَاهَا الْبَيَاضُ وَالسَّوَادُ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا أَبُو عَلِيِّ ابْن سِينَا فِي «أُرْجُوزَتِهِ» فِي الطِّبِّ بِقَوْلِهِ:

بِالنَّزْجِ حَرٌّ غَيَّرَ الْأَجْسَادَ ... حَتَّى كَسَا بَيَاضَهَا سَوَادَا

وَالصَّقْلَبُ اكْتَسَبَتِ الْبَيَاضَا ... حَتَّى غَدَتْ جُلُودُهَا بِضَاضَا

وَكَانَ أَصْلُ اللَّوْنِ الْبَيَاضَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى عِلَّةٍ وَلِأَنَّ التَّشْرِيحَ أَثْبَتَ أَنَّ أَلْوَانَ