وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مُجَرَّدُ تَقْرِيبٍ لِأَفْهَامِهِمْ عَقَّبَ بِقَولِهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أَيْ ثَبُتَ لَهُ وَاسْتَحَقَّ الشَّأْنَ الْأَتَمَّ الَّذِي لَا يُقَاس بشؤون النَّاسِ الْمُتَعَارَفَةِ وَإِنَّمَا لِقَصْدِ التَّقْرِيبِ لِأَفْهَامِكُمْ.
والْأَعْلى: مَعْنَاهُ الْأَعْظَمُ الْبَالِغُ نِهَايَةَ حَقِيقَةِ الْعَظَمَةِ وَالْقُوَّةِ. قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ فِي «الْإِحْيَاءِ» : «لَا طَاقَةَ لِلْبَشَرِ أَنْ يَنْفُذُوا غَوْرَ الْحِكْمَةِ كَمَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ أَنْ يَنْفُذُوا بِأَبْصَارِهِمْ ضَوْءَ الشَّمْسِ وَلَكِنَّهُمْ يَنَالُونَ مِنْهَا مَا تَحْيَا بِهِ أَبْصَارُهُمْ وَقَدْ تَأَنَّقَ بَعْضُهُمْ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ وَجْهِ اللُّطْفِ فِي إِيصَالِ مَعَانِي الْكَلَامِ الْمَجِيدِ إِلَى فَهْمِ الْإِنْسَانِ لِعُلُوِّ دَرَجَةِ الْكَلَامِ الْمَجِيدِ وَقُصُورِ رُتْبَةِ الْأَفْهَامِ الْبَشَرِيَّةِ فَإِنَّ النَّاسَ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يُفْهِمُوا الدَّوَابَّ مَا يُرِيدُونَ مِنْ تَقْدِيمِهَا وَتَأْخِيرِهَا وَنَحْوِهِ وَرَأَوْهَا تُقَصِّرُ عَنْ فَهْمِ الْكَلَامِ الصَّادِرِ عَنِ الْعُقُولِ مَعَ حُسْنِهِ وَتَرْتِيبِهِ نَزَلُوا إِلَى دَرَجَةِ تَمْيِيزِ الْبَهَائِمِ وَأَوْصَلُوا مَقَاصِدَهُمْ إِلَيْهَا بِأَصْوَاتٍ يَضَعُونَهَا لَائِقَةً بِهَا مِنَ الصَّفِيرِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَصْوَاتِ الْقَرِيبَةِ مِنْ أَصْوَاتِهَا» اهـ.
وَقَوْلُهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ صِفَةٌ لِلْمَثَلِ أَوْ حَالٌ مِنْهُ، أَيْ كَانَ اسْتِحْقَاقُهُ الْمَثَلَ الْأَعْلَى مُسْتَقِرًّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَيْ فِي كَائِنَاتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَالْمُرَادُ:
أَهْلُهَا، على حدّ وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُف: ٨٢] ، أَيْ هُوَ مَوْصُوفٌ بِأَشْرَفِ الصِّفَات وَأعظم الشؤون عَلَى أَلْسِنَةِ الْعُقَلَاءِ وَهِيَ الْمَلَائِكَةُ وَالْبَشَرُ الْمُعْتَدُّ بِعُقُولِهِمْ وَلَا اعْتِدَادَ بِالْمُعَطَّلِينَ مِنْهُمْ لِسَخَافَةِ عُقُولِهِمْ وَفِي دَلَائِلِ الْأَدِلَّةِ الْكَائِنَةِ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ، فَكُلُّ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ شَاهِدَةٌ بِأَنَّ لِلَّهِ الْمَثَلَ الْأَعْلَى. وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَثَلِ الْأَعْلَى عِزَّتُهُ وَحِكْمَتُهُ تَعَالَى فَخُصَّا بِالذِّكْرِ هُنَا لِأَنَّهُمَا الصِّفَتَانِ اللَّتَانِ تَظْهَرُ آثَارُهُمَا فِي الْغَرَضِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ وَهُوَ بَدْءُ الْخَلْقِ وَإِعَادَتُهُ فَالْعِزَّةُ تَقْتَضِي الْغِنَى الْمُطْلَقَ فَهِيَ تَقْتَضِي تَمَامَ الْقُدْرَةِ. وَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي عُمُومَ الْعِلْمِ. وَمِنْ آثَارِ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ أَنَّهُ يُعِيدُ الْخَلْقَ بِقُدْرَتِهِ وَأَنَّ الْغَايَةَ مِنْ ذَلِكَ الْجَزَاءُ وَهُوَ من حكمته.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute