للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْحَالَاتِ، ثُمَّ يَعْرِضُ عَلَى ذِهْنِهِ شَيْئًا وَيَتَشَكَّكُ فِيهِ فَإِنْ أَمْكَنَهُ الشَّكُّ فَالْفِطْرَةُ لَا تَشْهَدُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الشَّكُّ فَهُوَ مَا تُوجِبُهُ الْفِطْرَةُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا تُوجِبُهُ فِطْرَةُ الْإِنْسَانِ بِصَادِقٍ إِنَّمَا الصَّادِقُ فِطْرَةُ الْقُوَّةِ الَّتِي تُسَمَّى عَقْلًا، وَأَمَّا فِطْرَةُ الذِّهْنِ بِالْجُمْلَةِ فَرُبَّمَا كَانَتْ كَاذِبَةً، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا الْكَذِبُ فِي الْأُمُورِ الَّتِي لَيْسَتْ مَحْسُوسَةً بِالذَّاتِ بَلْ هِيَ مَبَادِئُ لِلْمَحْسُوسَاتِ. فَالْفِطْرَةُ الصَّادِقَةُ هِيَ مُقَدِّمَاتٌ وَآرَاءٌ مَشْهُورَةٌ مَحْمُودَةٌ أَوْجَبَ التَّصْدِيقَ بِهَا: إِمَّا شَهَادَةُ الْكُلِّ مِثْلَ:

أَنَّ الْعَدْلَ جَمِيلٌ، وَإِمَّا شَهَادَةُ الْأَكْثَرِ وَإِمَّا شَهَادَةُ الْعُلَمَاءِ أَوِ الْأَفَاضِلِ مِنْهُمْ. وَلَيْسَتِ

الذَّائِعَاتُ مِنْ جِهَةِ مَا هِيَ ذَائِعَاتٌ مِمَّا يَقَعُ التَّصْدِيقُ بِهَا فِي الْفِطْرَةِ فَمَا كَانَ مِنَ الذَّائِعَاتِ لَيْسَ بِأَوَّلِيٍّ عَقْلِيٍّ وَلَا وَهْمِيٍّ فَإِنَّهَا غَيْرُ فِطْرِيَّةٍ، وَلَكِنَّهَا مُتَقَرِّرَةٌ عِنْدَ الْأَنْفُسِ لِأَنَّ الْعَادَةَ مُسْتَمِرَّةٌ عَلَيْهَا مُنْذُ الصِّبَا وَرُبَّمَا دَعَا إِلَيْهَا مَحَبَّةُ التَّسَالُمِ وَالِاصْطِنَاعُ الْمُضْطَرُّ إِلَيْهِمَا الْإِنْسَانُ (١) ، أَوْ شَيْءٌ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْإِنْسَانِيَّةِ مِثْلَ الْحَيَاءِ وَالِاسْتِئْنَاسِ (٢) أَوِ الِاسْتِقْرَاءِ الْكَثِيرِ، أَوْ كَوْنِ الْقَوْلِ فِي نَفْسِهِ ذَا شَرْطٍ دَقِيقٍ لِأَنْ يَكُونَ حَقًّا صِرْفًا فَلَا يُفْطَنُ لِذَلِكَ الشَّرْطِ وَيُؤْخَذُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، اهـ. فَوَصْفُ الْإِسْلَامِ بِأَنَّهُ فِطْرَةُ اللَّهِ مَعْنَاهُ أَنَّ أَصْلَ الِاعْتِقَادِ فِيهِ جَارٍ عَلَى مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَأَمَّا تَشْرِيعَاتُهُ وَتَفَارِيعُهُ فَهِيَ: إِمَّا أُمُورٌ فِطْرِيَّةٌ أَيْضًا، أَيْ جَارِيَةٌ عَلَى وَفْقِ مَا يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ وَيَشْهَدُ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لِصَلَاحِهِ مِمَّا لَا يُنَافِي فِطْرَتَهُ.

وَقَوَانِينُ الْمُعَامَلَاتِ فِيهِ هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى مَا تَشْهَدُ بِهِ الْفِطْرَةُ لِأَنَّ طَلَبَ الْمَصَالِحِ مِنَ الْفِطْرَةِ. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ وَقَدْ بَيَّنْتُهُ فِي كِتَابِي الْمُسَمَّى «مَقَاصِدُ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ» . وَاعْلَمْ أَنَّ شَوَاهِدَ الْفِطْرَةِ قَدْ تَكُونُ وَاضِحَةً بَيِّنَةً وَقَدْ تَكُونُ خَفِيَّةً، كَمَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الشَّيْخِ ابْنِ سِينَا، فَإِذَا خَفِيَتِ الْمَعَانِي الْفِطْرِيَّةُ أَوِ الْتَبَسَتْ بِغَيْرِهَا فَالْمُضْطَلِعُونَ بِتَمْيِيزِهَا وَكَشْفِهَا هُمُ الْعُلَمَاءُ الْحُكَمَاءُ الَّذِينَ تَمَرَّسُوا بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ


(١) وَهَذَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [العنكبوت: ٢٥] .
(٢) قَالَ تَعَالَى حِكَايَة عَن قوم كذبُوا الرُّسُل: تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا [إِبْرَاهِيم:
١٠] ، وَقَالَ: مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْقَصَص: ٣٦] .