فِي تفاريعهما.
وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ: «وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ- أَيْ غَيْرَ مُشْرِكِينَ- وَأَنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَأَجَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا»
الْحَدِيثَ (١) .
وَجُمْلَةُ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ مبيّنة لِمَعْنى فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها فَهِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَى حَالٍ ثَالِثَةٍ مِنَ الدِّينُ عَلَى تَقْدِيرِ رَابِطٍ مَحْذُوفٍ. وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ فِيهِ، أَيْ فِي هَذَا الدِّينِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ فِي قَوْلِ الرَّابِعَةِ: زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ لَا حَرَّ وَلَا قَرَّ وَلَا مَخَافَةَ وَلَا سَآمَةَ أَيْ فِي ذَلِكَ اللَّيْلِ.
فَمَعْنَى لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أَنَّهُ الدِّينُ الْحَنِيفُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تَبْدِيلٌ لِخَلْقِ اللَّهِ خِلَافَ دِينِ أَهْلِ الشِّرْكِ، قَالَ تَعَالَى عَنِ الشَّيْطَانِ: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النِّسَاء:
١١٩] . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ مُعْتَرِضَةً لِإِفَادَةِ النَّهْيِ عَنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ فِيمَا أَوْدَعَهُ الْفِطْرَةَ. فَتَكُونُ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ خَبَرًا مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى النَّهْيِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالِغَةِ كَقَوْلِهِ لَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاء: ٢٩] . فَنَفْيُ الْجِنْسِ مُرَادٌ بِهِ جِنْسٌ مِنَ التَّبْدِيلِ خَاصٌّ بِالْوَصْفِ لَا نَفْيَ وُقُوعِ جِنْسِ التَّبْدِيلِ فَهُوَ مِنَ الْعَامِ الْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ
بِالْقَرِينَةِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِ هَذَا الدِّينِ مَعَ تَعْظِيمِهِ.
والْقَيِّمُ: وَصْفٌ بِوَزْنِ فَيْعِلٍ مِثْلَ هَيِّنٍ وَلَيِّنٍ يُفِيدُ قُوَّةَ الِاتِّصَافِ بِمَصْدَرِهِ، أَيِ الْبَالِغُ قُوَّةَ الْقِيَامِ مِثْلَ اسْتَقَامَ الَّذِي هُوَ مُبَالَغَةٌ فِي قَامَ كَاسْتَجَابَ.
وَالْقِيَامُ: حَقِيقَتُهُ الِانْتِصَابُ ضِدَّ الْقُعُودِ وَالِاضْطِجَاعِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى انْتِفَاءِ الِاعْوِجَاجِ يُقَالُ: عُودٌ مُسْتَقِيمٌ وَقَيِّمٌ، فَإِطْلَاقُ الْقَيِّمِ عَلَى الدِّينِ تَشْبِيهُ انْتِفَاءِ الْخَطَأِ عَنْهُ بِاسْتِقَامَةِ الْعُودِ وَهُوَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً [الْكَهْف: ١، ٢] وَقَالَ تَعَالَى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ
(١) أخرجه مُسلم فِي صفة أهل الْجنَّة من كتاب «الْجنَّة وَالنَّار» . وَهُوَ حَدِيث طَوِيل.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute