ذَلِكَ الْمُسْتَفَادَةَ مِنْ كَمْ الْخَبَرِيَّةِ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِتَرْتِيبِ الِاسْتِدْلَالِ فِي تَوَاتُرِ الْأَخْبَارِ وَلَا تَحْصُلُ دُفْعَةً كَمَا تَحْصُلُ دَلَالَةُ الْمُشَاهَدَاتِ.
وَفَاعِلُ يَهْدِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ كَمْ الْخَبَرِيَّةُ مِنْ مَعْنَى الْكَثْرَةِ. وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ جَعْلُ كَمْ فَاعِلَ يَهْدِ لِأَنَّ كَمْ الْخَبَرِيَّةَ اسْمٌ لَهُ الصَّدَارَةُ فِي الِاسْتِعْمَالِ إِذْ أَصْلُهُ اسْتِفْهَامٌ فَتُوُسِّعَ فِيهِ.
وَيَجُوزُ جَعْلُ كَمْ فَاعِلًا عِنْدَ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطُوا أَنْ تَكُونَ كَمْ الْخَبَرِيَّةُ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ. وَجُوِّزَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ جُمْلَةَ كَمْ أَهْلَكْنا عَلَى مَعْنَى الْحِكَايَةِ لِهَذَا الْقَوْلِ، كَمَا يُقَالُ: تَعْصِمُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ، أَيْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ أَيِ النُّطْقُ بِهَا لِتَقَلُّدِ الْإِسْلَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلَ ضَمِيرُ الْجَلَالَةِ دَالًّا عَلَيْهِ الْمَقَامُ، أَيْ أَلَمْ يَهْدِ
اللَّهُ لَهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ بَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ وَذَكَّرَهُمْ بِمَصَارِعِ الْمُكَذِّبِينَ، وَتَكُونَ جُمْلَةُ كَمْ أَهْلَكْنا عَلَى هَذَا اسْتِئْنَافًا، وَتَقَدَّمَ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فِي أَوَّلِ الْأَنْعَامِ [٦] .
وَنِيطَ الِاسْتِدْلَالُ هُنَا بِالْكَثْرَةِ الَّتِي أَفَادَتْهَا كَمْ الْخَبَرِيَّةُ لِأَنَّ تَكَرُّرَ حُدُوثِ الْقُرُونِ وَزَوَالِهَا أَقْوَى دَلَالَةً مِنْ مُشَاهَدَةِ آثَارِ أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ.
ويَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ أَوَلَمْ يَرَوْا [السَّجْدَة: ٢٧] وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَمُرُّونَ عَلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِيهَا بَقَايَا مَسَاكِنِهِمْ مِثْلَ حِجْرِ ثَمُودَ وَدِيَارِ مَدْيَنَ فَتُعَضِّدُ مُشَاهَدَةُ مَسَاكِنِهِمُ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ عَنِ اسْتِئْصَالِهِمْ وَهِيَ دَلَائِلُ إِمْكَانِ الْبَعْثِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْوَاقِعَة: ٦٠، ٦١] ، وَدَلَائِلُ مَا يَحِيقُ بِالْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ وَفِي كُلِّ أُمَّةٍ وَمَوْطِنٍ دَلَائِلُ كَثِيرَةٌ مُتَمَاثِلَةٌ أَوْ مُتَخَالِفَةٌ.
وَلَمَّا كَانَ الَّذِي يُؤْثَرُ مِنْ أَخْبَارِ تِلْكَ الْأُمَمِ وَتَقَلُّبَاتِ أَحْوَالِهَا وَزَوَالِ قُوَّتِهَا وَرَفَاهِيَتِهَا أَشَدَّ دَلَالَةً وَمَوْعِظَةً لِلْمُشْرِكِينَ فُرِّعَ عَلَيْهِ أَفَلا يَسْمَعُونَ اسْتِفْهَامًا تَقْرِيرِيًّا مَشُوبًا بِتَوْبِيخٍ لِأَنَّ اجْتِلَابَ الْمُضَارِعِ وَهُوَ يَسْمَعُونَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ اسْتِمَاعَ أَخْبَارِ تِلْكَ الْأُمَمِ مُتَكَرِّرٌ مُتَجَدِّدٌ فَيَكُونُ التَّوْبِيخُ عَلَى الْإِقْرَارِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ أَوْقَعَ بِخِلَافِ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ أَفَلا يُبْصِرُونَ [السَّجْدَة: ٢٧] . وَقَدْ شَاعَ تَوْجِيهُ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ إِلَى الْمَنْفِيِّ، وَتَقَدَّمَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute