للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْمُرَادُ مِنْ تَطْهِيرِ الْبَيْتِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ التَّطْهِيرِ مِنْ مَحْسُوسٍ بِأَنْ يُحْفَظَ مِنَ الْقَاذُورَاتِ وَالْأَوْسَاخِ لِيَكُونَ الْمُتَعَبِّدُ فِيهِ مُقْبِلًا عَلَى الْعِبَادَةِ دُونَ تَكْدِيرٍ، وَمِنْ تَطْهِيرٍ مَعْنَوِيٍّ

وَهُوَ أَنْ يُبْعَدَ عَنْهُ مَا لَا يَلِيقُ بِالْقَصْدِ مِنْ بِنَائِهِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَفْعَالِ الْمُنَافِيَةِ لِلْحَقِّ كَالْعُدْوَانِ وَالْفُسُوقِ، وَالْمُنَافِيَةِ لِلْمُرُوءَةِ كَالطَّوَافِ عُرْيًا دُونَ ثِيَابِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.

وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَيْسُوا أَهْلًا لِعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُطَهِّرُوهُ مِمَّا يَجِبُ تَطْهِيرُهُ مِنْهُ قَالَ تَعَالَى: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [الْأَنْفَال: ٣٤] وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التَّوْبَة: ٢٨] .

وَالطَّائِفُونَ وَالْعَاكِفُونَ وَالرَّاكِعُونَ وَالسَّاجِدُونَ أَصْنَافُ الْمُتَعَبِّدِينَ فِي الْبَيْتِ مِنْ طَوَافٍ وَاعْتِكَافٍ وَصَلَاةٍ، وَهُمْ أَصْنَافُ الْمُتَلَبِّسِينَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ سَوَاءٌ انْفَرَدَتْ بَعْضُ الطَّوَائِفِ بِبَعْضِ هَذِهِ الصِّفَاتِ أَوِ اجْتَمَعَتِ الصِّفَاتُ فِي طَائِفَةٍ أَوْ طَوَائِفٍ، وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي الْكَعْبَةِ قَبْلَ وَضْعِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ إِسْمَاعِيلُ وَأَبْنَاؤُهُ وَأَصْهَارُهُ مِنْ جُرْهُمٍ وَكُلُّ مَنْ آمَنَ بِدِينِ الْحَنِيفِيَّةِ مِنْ جِيرَانِهِمْ.

وَقَدْ جَمَعَ الطَّائِفَ وَالْعَاكِفَ جَمْعَ سَلَامَةِ، وَجَمْعَ الرَّاكِعَ وَالسَّاجِدَ جَمْعَ تَكْسِيرٍ، تَفَنُّنًا فِي الْكَلَامِ وَبُعْدًا عَنْ تَكْرِيرِ الصِّيغَةِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ بِخِلَافِ نَحْوَ قَوْلِهِ: مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ [التَّحْرِيم: ٥] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [الْأَحْزَاب: ٣٥] الْآيَةَ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ «جَمَعَ الطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ جَمْعَ سَلَامَةٍ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى لَفْظِ الْفِعْلِ بِمَنْزِلَةِ يَطُوفُونَ أَيْ يُجَدِّدُونَ الطَّوَافَ لِلْإِشْعَارِ بِعِلَّةِ تَطْهِيرِ الْبَيْتِ وَهُوَ قُرْبُ هَذَيْنِ مِنَ الْبَيْتِ بِخِلَافِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَا فِي الْبَيْتِ وَلَا عِنْدَهُ فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْمَعْ جَمْعَ سَلَامَةٍ» ، وَهَذَا الْكَلَامُ يُؤْذِنُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ جَمْعِ السَّلَامَةِ وَجَمْعِ التَّكْسِيرِ مِنْ حَيْثُ الْإِشْعَارِ بِالْحُدُوثِ وَالتَّجَدُّدِ، وَيَشْهَدُ لَهُ كَلَامُ أَبِي الْفَتْحِ ابْن جِنِّي فِي «شَرْحِ الْحَمَاسَةِ» عِنْدَ قَوْلِ الْأَحْوَصِ الْأَنْصَارِيِّ:

فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ عَنْ مُتَخَمِّطٍ ... تُخْشَى بَوَادِرُهُ عَلَى الْأَقْرَانِ

قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: «جَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَى بِبَوَادِرِ، وَإِنْ كَانَ جَمْعًا مُكَسَّرًا وَالْمَصْدَرُ إِذَا كُسِرَ بَعُدَ بِتَكْسِيرِهِ عَنْ شِبْهِ الْفِعْلِ، وَإِذَا جَازَ تَعَلُّقُ الْمَفْعُولِ بِهِ بِالْمَصْدَرِ مُكَسَّرًا نَحْوَ «مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ أَخَاهُ» كَانَ تَعَلُّقُ حَرْفِ الْجَرِّ بِهِ أَجْوَزَ» . فَصَرِيحُ كَلَامِهِ أَنَّ التَّكْسِيرَ يُبْعِدُ مَا هُوَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ عَنْ شِبْهِ الْفِعْلِ.