وَإِرَادَةُ الدَّارِ الْآخِرَةِ: إِرَادَةُ فَوْزِهَا، فَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ أَيْضًا، فَأُسْلُوبُ الْكَلَامِ جَرَى عَلَى إِنَاطَةِ الْحُكْمِ بِالْأَعْيَانِ وَهُوَ أُسْلُوبٌ يَقْتَضِي تَقْدِيرًا فِي الْكَلَامِ مِنْ قَبِيلِ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ. وَفِي حَذْفِ الْمُضَافَاتِ وَتَعْلِيقِ الْإِرَادَةِ بِأَسْمَاءِ الْأَعْيَانِ الثَّلَاثَةِ مَقْصِدُ أَنْ تَكُونَ الْإِرَادَة مُتَعَلقَة بشؤون الْمُضَافِ إِلَيْهِ الَّتِي تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ ذَاتِهِ مَعَ قَضَاءِ حَقِّ الْإِيجَازِ بَعْدَ قَضَاءِ حَقِّ الْإِعْجَازِ. فَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتُنَّ تُؤْثِرْنَ مَا يُرْضِي اللَّهَ وَيُحِبُّهُ رَسُولُهُ وَخَيْرَ الدَّارِ الْآخِرَةِ فَتَخْتَرْنَ ذَلِكَ عَلَى مَا يُشْغِلُ عَنْ ذَلِكَ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مُقَابَلَةُ إِرَادَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ بِإِرَادَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، فَإِنَّ الْمُقَابَلَةَ تَقْتَضِي إِرَادَتَيْنِ يُجْمَعُ بَيْنَ إِحْدَاهُمَا وَبَيْنَ الْأُخْرَى، فَإِنَّ التَّعَلُّقَ بِالدُّنْيَا يَسْتَدْعِي الِاشْتِغَالَ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَة من شؤون الدُّنْيَا لَا مَحِيصَ مِنْ أَنْ تُلْهِيَ صَاحِبَهَا عَنِ الِاشْتِغَالِ بِأَشْيَاءَ عَظِيمَة من شؤون مَا يُرْضِي اللَّهَ وَمَا يُرْضِي رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَنِ التَّمَلِّي مِنْ أَعْمَالٍ كَثِيرَةٍ مِمَّا يُكْسِبُ الْفَوْزَ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تَرْتَقِيَ النَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ إِلَى مَرَاتِبِ الْمَلَكِيَّةِ وَالرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْتَغِي أَنْ يَكُونَ أَقْرَبُ النَّاس إِلَيْهِ وأعلقهم بِهِ سَائِرًا عَلَى طَرِيقَتِهِ لِأَنَّ طَرِيقَتَهُ هِيَ الَّتِي اخْتَارَهَا اللَّهُ لَهُ. وَبِمِقْدَارِ الِاسْتِكْثَارِ مِنْ ذَلِكَ يَكْثُرُ الْفَوْزُ بِنَعِيمِ الْآخِرَةِ، فَالنَّاسُ مُتَسَابِقُونَ فِي هَذَا الْمِضْمَارِ وَأَوْلَاهُمْ بِقَصَبِ السَّبْقِ فِيهِ أَشَدُّهُمْ تَعَلُّقًا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ كَانَتْ هِمَمُ أَفَاضِلِ السَّلَفِ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ أَزْوَاجُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ وَقَدْ ذَكَّرَهُنَّ اللَّهُ تَذْكِيرًا بَدِيعًا بِقَوْلِهِ:
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الْأَحْزَاب: ٣٤] كَمَا سَيَأْتِي.
وَلَمَّا كَانَتْ إِرَادَتُهُنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ مُقْتَضِيَةً عَمَلَهُنَّ الصَّالِحَاتِ وَكَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ مُتَفَاوِتًا، وَجَعَلَ الْجَزَاءَ عَلَى ذَلِكَ بِالْإِحْسَانِ فَقَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً لِيَعْلَمْنَ أَنَّ هَذَا الْأَجْرَ حَاصِلٌ لَهُنَّ عَلَى قَدْرِ إِحْسَانِهِنَّ فَهَذَا وَجْهُ ذِكْرِ وَصْفِ الْمُحْسِنَاتِ وَلَيْسَ هُوَ لِلِاحْتِرَازِ. وَفِي ذِكْرِ الْإِعْدَادِ إِفَادَةُ الْعِنَايَةِ بِهَذَا الْأَجْرِ وَالتَّنْوِيهُ بِهِ زِيَادَةً
عَلَى وَصْفِهِ بِالْعَظِيمِ.
وَتَوْكِيدُ جُمْلَةِ الْجَزَاءِ بِحَرْفِ إِنْ الَّذِي لَيْسَ هُوَ لِإِزَالَةِ التَّرَدُّدِ إِظْهَارٌ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute