فَالْحِكْمَةُ وَإِنْ كَانَتْ عِلْمًا اصْطِلَاحِيًّا وَلَيْسَ هُوَ تَمَامَ الْمَعْنَى لِلْآيَةِ إِلَّا أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْأَصْلِيَّ لَا يَفُوتُ وَتَفَارِيعُ الْحِكْمَةِ تُعِينُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ أَنْ نَأْخُذَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ [الْحَشْر: ٧] تَفَاصِيلَ مِنْ عِلْمِ الِاقْتِصَادِ السِّيَاسِيِّ وَتَوْزِيعِ الثَّرْوَةِ الْعَامَّةِ وَنُعَلِّلَ بِذَلِكَ مَشْرُوعِيَّةَ الزَّكَاةِ وَالْمَوَارِيثِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ مِنْ رَأْسِ مَالٍ وَعَمَلٍ عَلَى أَن ذَلِك تومىء إِلَيْهِ الْآيَةُ إِيمَاءً. وَأَنَّ بَعْضَ مَسَائِلِ الْعُلُومِ قَدْ تَكُونُ أَشَدَّ تَعَلُّقًا بِتَفْسِيرِ آيِ الْقُرْآنِ كَمَا نَفْرِضُ مَسْأَلَةً كَلَامِيَّةً لِتَقْرِيرِ دَلِيلٍ قُرْآنِيٍّ مِثْلَ بُرْهَانِ
التَّمَانُعِ لِتَقْرِيرِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاء: ٢٢] وَكَتَقْرِيرِ مَسْأَلَةِ الْمُتَشَابِهِ لِتَحْقِيقِ مَعْنًى نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ [الذاريات: ٤٧] فَهَذَا كَوْنُهُ مِنْ غَايَاتِ التَّفْسِيرِ وَاضِحٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ [ق: ٦] فَإِنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ الِاعْتِبَارُ بِالْحَالَةِ الْمُشَاهَدَةِ فَلَوْ زَادَ الْمُفَسِّرُ فَفَصَّلَ تِلْكَ الْحَالَةَ وَبَيَّنَ أَسْرَارَهَا وَعَلَّلَهَا بِمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي علم الهيأة كَانَ قد زَاد الْمَقْصُود خِدْمَةً.
وَإِمَّا عَلَى وَجْهِ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْمَعْنَى الْقُرْآنِيِّ وَبَيْنَ الْمَسَائِلِ الصَّحِيحَةِ مِنَ الْعِلْمِ حَيْثُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ. وَإِمَّا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِرْوَاحِ مِنَ الْآيَةِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ [الْكَهْف: ٤٧] أَنَّ فَنَاءَ الْعَالَمِ يَكُونُ بِالزَّلَازِلِ، وَمِنْ قَوْلِهِ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير: ١] الْآيَةَ أَنَّ نِظَامَ الْجَاذِبِيَّةِ يَخْتَلُّ عِنْدَ فَنَاءِ الْعَالَمِ. وَشَرْطُ كَوْنِ ذَلِكَ مَقْبُولًا أَنْ يَسْلُكَ فِيهِ مَسْلَكَ الْإِيجَازِ فَلَا يَجْلِبُ إِلَّا الْخُلَاصَةَ مِنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ وَلَا يَصِيرُ الِاسْتِطْرَادُ كَالْغَرَضِ الْمَقْصُودِ لَهُ لِئَلَّا يَكُونَ كَقَوْلِهِمْ السِّيُّ بِالسِّيِّ يُذْكَرُ (١) .
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي سُلُوكِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الثَّالِثَةِ عَلَى الْإِجْمَالِ آرَاءٌ، فَأَمَّا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ فَيَرَوْنَ مِنَ الْحَسَنِ التَّوْفِيقَ بَيْنَ الْعُلُومِ غَيْرِ الدِّينِيَّةِ وَآلَاتِهَا وَبَيْنَ الْمَعَانِي الْقُرْآنِيَّةِ، وَيَرَوْنَ الْقُرْآنَ مُشِيرًا إِلَى كَثِيرٍ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ فِي «فَصْلِ الْمَقَالِ» : «أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنْ لَيْسَ يَجِبُ أَنْ تُحْمَلَ أَلْفَاظُ الشَّرْعِ كُلُّهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، وَلَا أَنْ تَخْرُجَ كُلُّهَا عَنْ ظَاهِرِهَا بِالتَّأْوِيلِ، وَالسَّبَبُ فِي وُرُودِ الشَّرْعِ بِظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ هُوَ اخْتِلَافُ نَظَرِ النَّاسِ وَتَبَايَنُ قَرَائِحِهِمْ فِي التَّصْدِيقِ»
(١) السي: بسين مُهْملَة مَكْسُورَة وتحتية مُشَدّدَة النظير والمثيل.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute