للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بَيْنَهُمَا.

وَأما إِشَارَة النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى زَيْدٍ بِإِمْسَاكِ زَوْجِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهَا سَتَصِيرُ زَوْجَةً لَهُ فَهُوَ أَدَاءٌ لِوَاجِبِ أَمَانَةِ الِاسْتِنْصَاحِ وَالِاسْتِشَارَةِ، وَقَدْ يُشِيرُ الْمَرْءُ بِالشَّيْءِ يَعْلَمُهُ مَصْلَحَةً وَهُوَ يُوقِنُ أَنَّ إِشَارَتَهُ لَا تُمْتَثَلُ. والتخليط بَين الْحَالين تَخْلِيطٌ بَيْنَ التَّصَرُّفِ الْمُسْتَنِدِ لِمَا تَقْتَضِيهِ ظَوَاهِرُ الْأَحْوَالِ وَبَيْنَ مَا فِي عِلْمِ اللَّهِ فِي الْبَاطِنِ، وَأَشْبَهُ مَقَامٍ بِهِ مَقَامُ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ فِي الْقَضَايَا الثَّلَاثِ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ خَائِنَةِ الْأَعْيُنِ، كَمَا تَوَهَّمَهُ مَنْ لَا يُحْسِنُ، لِأَنَّ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ الْمَذْمُومَةِ مَا كَانَتْ مِنِ الْخِيَانَةِ وَالْكَيْدِ.

وَلَيْسَ هُوَ أَيْضًا مِنَ الْكَذِبِ لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِزَيْدٍ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ لَا يُنَاقِضُ رَغْبَتَهُ فِي تَزَوُّجِهَا وَإِنَّمَا يُنَاقِضُهُ لَوْ قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ تُمْسِكَ زَوْجَكَ، إِذْ لَا يَخْفَى أَنَّ الِاسْتِشَارَةَ طَلَبُ النَّظَرِ فِيمَا هُوَ صَلَاحٌ لِلْمُسْتَشِيرِ لَا مَا هُوَ صَلَاحٌ لِلْمُسْتَشَارِ. وَمِنْ حَقِّ الْمُسْتَشَارِ إِعْلَامُ الْمُسْتَشِيرِ بِمَا هُوَ صَلَاحٌ لَهُ فِي نَظَرِ الْمُشِيرِ، وَإِنْ كَانَ صَلَاحُ الْمُشِيرِ فِي خِلَافِهِ، فَضْلًا عَلَى كَوْنِ مَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ إِنَّمَا هُوَ تَخَالُفٌ بَيْنَ النَّصِيحَةِ وَبَيْنَ مَا عَلِمَهُ النَّاصِحُ مِنْ أَنَّ نُصْحَهُ لَا يُؤَثِّرُ.

فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا مَعْنَى مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ كَاتِمًا شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ الْآيَةَ.

قُلْتُ: أَرَادَتْ أَنَّ رَغْبَةَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَزَوُّجِ زَيْنَبَ أَوْ إِعْلَامَ اللَّهِ إِيَّاهُ بِذَلِكَ كَانَ سِرًّا فِي نَفْسِهِ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِذْ لَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ إِلَى أَحَدٍ. وَعَلَى ذَلِكَ السِّرِّ انْبَنَى مَا صَدَرَ مِنْهُ لزيد من قَوْلِهِ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ. فَلَمَّا طَلَّقَهَا زَيْدٌ وَرَامَ تَزَوُّجَهَا عَلِمَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ سَيَرْجُفُونَ بِالسُّوءِ، فَلَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِذِكْرِ ذَلِكَ لِلْأُمَّةِ وَتَبْلِيغِ خَبَرَهُ بَلَّغَهُ وَلَمْ يَكْتُمْهُ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَتْمِهِ تَعْطِيلُ شَرْعٍ وَلَا نَقْصُ مَصْلَحَةٍ، فَلَوْ كَانَ كَاتِمًا لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي هِيَ حِكَايَةُ سِرٍّ فِي نَفْسِهِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ وَحْيًا بَلَّغَهُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَبْلِيغِ كُلِّ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْحَقَائِقِ نِصَابَهَا، وَلِلتَّصَرُّفَاتِ مَوَانِعَهَا وَأَسْبَابَهَا، وَأَنَّ النَّاسَ قَدْ تَمْتَلِكُهُمُ الْعَوَائِدُ، فَتَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِدْرَاكِ الْفَوَائِدِ، فَإِذَا تَفَشَّتْ أَحْوَالٌ فِي