للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَمَعْنَى زَوَّجْناكَها إِذْنًا لَكَ بِأَنْ تَتَزَوَّجَهَا، وَكَانَتْ زَيْنَبُ أَيِّمًا فَتَزَوَّجَهَا الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِرِضَاهَا. وَذَكَرَ أَهْلُ السِّيَرِ: أَنَّهَا زَوَّجَهَا إِيَّاهُ أَخُوهَا أَبُو أَحْمَدَ الضَّرِيرِ وَاسْمُهُ عَبْدُ بْنُ جَحْشٍ، فَلَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِتَزَوُّجِهَا قَالَ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ: مَا أَجِدُ فِي نَفْسِي أَوْثَقَ مِنْكَ فَاخْطُبْ زَيْنَبَ عَلَيَّ، قَالَ زَيْدٌ: فَجِئْتُهَا فَوَلَّيْتُهَا ظَهْرِي تَوْقِيرًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُلْتُ: يَا زَيْنَبُ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ يَذْكُرُكِ. فَقَالَتْ: مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئًا حَتَّى أُوَامِرَ رَبِّي، وَقَامَتْ إِلَى مَسْجِدِهَا وَصَلَّتْ صَلَاةَ الِاسْتِخَارَةِ فَرَضِيَتْ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ فَبَنَى بِهَا. وَكَانَتْ زَيْنَبُ تَفْخَرُ على نسَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ آبَاؤُكُنَّ وَزَوَّجَنِي رَبِّي. وَهَذَا يَقْتَضِي إِنْ لَمْ يَتَوَلَّ أَخُوهَا أَبُو أَحْمَدَ تَزْوِيجَهَا فَتَكُونُ هَذِه خُصُوصِيَّة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الَّذِينَ يَشْتَرِطُونَ

الْوَلِيَّ فِي النِّكَاحِ كَالْمَالِكِيَّةِ دُونَ قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ. وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الرِّوَايَات أنّ النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَصْدَقَهَا فَعَدَّهُ بَعْضُ أَهْلِ السَّيَرِ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ فِي تَزَوُّجِهَا خُصُوصِيَّتَانِ نَبَوِيَّتَانِ.

وَأَشَارَ إِلَى حِكْمَةِ هَذَا التَّزْوِيجِ فِي إِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ إِبْطَالُ الْحَرَجِ الَّذِي كَانَ يَتَحَرَّجُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ زَوْجَةَ دَعِيِّهِ، فَلَمَّا أَبْطَلَهُ اللَّهُ بِالْقَوْلِ إِذْ قَالَ:

وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ [الْأَحْزَاب: ٤] أَكَّدَ إِبْطَالَهُ بِالْفِعْلِ حَتَّى لَا يَبْقَى أَدْنَى أَثَرٍ مِنَ الْحَرَجِ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّ ذَاكَ وَإِنْ صَارَ حَلَالًا فَيَنْبَغِي التَّنَزُّهُ عَنْهُ لِأَهْلِ الْكَمَالِ، فَاحْتِيطَ لِانْتِفَاءِ ذَلِكَ بِإِيقَاعِ التَّزَوُّجِ بِامْرَأَةِ الدَّعِيِّ مِنْ أَفْضَلِ النَّاس وَهُوَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَالْجَمْعُ بَيْنَ اللَّامِ وَكَيْ تَوْكِيدٌ لِلتَّعْلِيلِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَيْسَتِ الْعِلَّةُ غَيْرَ ذَلِكَ، وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَحْكَامِ التَّشْرِيعِيَّةِ أَنْ تَكُونَ سَوَاء بَين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأُمَّةِ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ.

وَجُمْلَةُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ زَوَّجْناكَها. وَأَمْرُ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ من أَمر بِهِ مِنْ إِبَاحَةِ تَزَوُّجِ مَنْ كُنَّ حَلَائِلَ الأدعياء، فَهُوَ بِمَعْنى الْأَمْرِ التَّشْرِيعِيِّ فِيهِ.

وَمَعْنَى مَفْعُولًا أَنَّهُ مُتَّبَعٌ ممتثل فَلَا يتنزه أَحَدٌ عَنْهُ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الْأَعْرَاف: ٣٢] .

وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْأَمْرُ التَّكْوِينِيُّ وَهُوَ مَا عَلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ وَقَدَّرَ أَسْبَابَ كَوْنِهِ،