عَلَيْهِمْ خُلْعَةُ النبوءة
لِأَجْلِ خَتْمِ النُّبُوَّةِ بِهِ كَانَ ذَلِكَ غَضًّا فِيهِ دُونَ سَائِرِ الرُّسُلِ وَذَلِكَ مَا لَا يُرِيدُهُ اللَّهُ بِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَرَادَ قَطْعَ النُّبُوءَةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صَرَفَ عِيسَى عَنِ التَّزَوُّجِ.
فَلَا تَجْعَلْ قَوْلَهُ: وَخَاتِمَ النَّبِيئِينَ دَاخِلًا فِي حَيِّزِ الِاسْتِدْرَاكِ لِمَا عَلِمْتَ مِنْ أَنَّهُ تَكْمِيلٌ وَاسْتِطْرَادٌ بِمُنَاسَبَةِ إِجْرَاءِ وَصْفِ الرِّسَالَةِ عَلَيْهِ. وببيان هَذِه الْحِكْمَةِ يَظْهَرُ حُسْنُ مَوْقِعِ التَّذْيِيلِ بِجُمْلَةِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً إِذْ أَظْهَرَ مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ فِيمَا قَدَّرَهُ مِنَ الْأَقْدَارِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ إِلَى قَوْلِهِ:
ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الْمَائِدَة: ٩٧] .
وَالْآيَةُ نَصٌّ فِي أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَ النَّبِيئِينَ وَأَنه لَا نبيء بَعْدَهُ فِي الْبَشَرِ لِأَنَّ النَّبِيئِينَ عَامٌّ فَخَاتَمُ النَّبِيئِينَ هُوَ خَاتَمُهُمْ فِي صِفَةِ النُّبُوءَةِ. وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى نَصِّيَّةِ الْآيَةِ أَنَّ الْعُمُومَ دِلَالَتُهُ عَلَى الْأَفْرَادِ ظَنِّيَّةٌ لِأَنَّ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ مُخَصَّصٍ. وَقَدْ تَحَقَّقْنَا عَدَمَ الْمُخَصَّصِ بِالِاسْتِقْرَاءِ.
وَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَعُرِفَ ذَلِكَ وَتَوَاتَرَ بَيْنَهُمْ وَفِي الْأَجْيَالِ مِنْ بَعْدِهِمْ وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَرَدَّدُوا فِي تَكْفِيرِ مُسَيْلِمَةَ وَالْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ فَصَارَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ فَمَنْ أَنْكَرَهُ فَهُوَ كَافِرٌ خَارِجٌ عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ كَانَ مُعْتَرِفًا بِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ. وَهَذَا النَّوْع من الْإِجْمَاع مُوجب الْعلم الضَّرُورِيّ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ جَمِيع عُلَمَائِنَا وَلَا يدْخل هَذَا النَّوْعُ فِي اخْتِلَافِ بَعْضِهِمْ فِي حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ إِذِ الْمُخْتَلِفُ فِي حُجِّيَّتِهِ هُوَ الْإِجْمَاعُ الْمُسْتَنِدُ لِنَظَرٍ وَأَدِلَّةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ بِخِلَافِ الْمُتَوَاتِرِ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ فِي كَلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي خَاتِمَةِ كِتَابِ «الِاقْتِصَادِ فِي الِاعْتِقَادِ» مُخَالَفَةً لِهَذَا عَلَى مَا فِيهِ مِنْ قِلَّةِ تَحْرِيرٍ. وَقَدْ حَمَلَ عَلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ حَمْلَةً غَيْرَ مُنْصِفَةٍ وَأَلْزَمَهُ إِلْزَامًا فَاحِشًا يُنَزَّهُ عَنْهُ عِلْمُهُ وَدِينُهُ فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا.
وَلِذَلِكَ لَا يَتَرَدَّدُ مُسْلِمٌ فِي تَكْفِيرِ مَنْ يُثْبِتُ نُبُوءَةً لِأَحَدٍ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي إِخْرَاجِهِ مِنْ حَظِيرَةِ الْإِسْلَامِ، وَلَا تُعْرَفُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَقْدَمَتْ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute